كلام لا علاقة له بالأمور السياسية….(3) بقلم العميد المتقاعد برهان إبراهيم كريم
في أوروبا يعتاد المرء وحتى لو كان زائراً على الاستمتاع بمتعة الاستيقاظ من النوم باكراً ليسر بما سيرى. ويشعرك جو الصباح بسحره وأنت ترى الناس رجالاً وشباباً وأطفالاً ونسوة وهم يسرعون الخطى مشياً على الأقدام,
أو يستخدم كل منهم واسطة نقله الخاصة, والتي هي إما دراجته الهوائية أو النارية ,أو عربته الخاصة. كي يلتحق بمقر عمله مدرسة أو جامعة أو مؤسسة عامة أو خاصة أو عامة أو متجر أو دائرة من دوائر الدولة.
وكل منهم يتوخى الحذر في حركته كي تكون سريعة وموزونة و هادئة ليس فيها من صخب أو ضجيج أو صراخ يزعج فيه الجيران والمارة. وتسحرك في هذه الظاهرة حركة الأطفال والرجال والصبية والنسوة.
ترى كل منهم يفتح باب منزله ويوصده بعد أن يخرج بكل هدوء كي لا يزعج جيرانه ومن لم يخرج بعد من أهله.وبكل نشاط وحيوية يهبط الدرج بدون أن تسمع وقع خطواته. ويوصد خلفه باب المبنى الرئيسي بكل حيطة و هدوء وحذر, ويستلم الطريق مسرع الخطى وكأنه ينفذ تمرينا رياضيا من تمارين التربية البدنية.فالعمل مقدس بنظر الجميع ويجب أن يعطى حقه الكامل بدون كسل وتكاسل أو إهمال وتقصير و أدنى تلكأ.فترى كل منهم في مكان عمله قبل الموعد المحدد بعدة دقائق,وجاهزاً لممارسة عمله مع بداية الوقت المحدد.وربما قد تجد عمال وعاملات متجر خاص مجتمعون أمام بابه قبل الوقت
المحدد بانتظار من يفتح لهم الباب ليدخلوا متجرهم سوية. ولو دققت ملياً في وجوههم لوجدت أن كل همهم هو الوصول في الوقت المحدد, وتأدية عملهم على الوجه الأكمل. وأن عدتهم إنما هو النشاط والحيوية والخبرة والتفاني والإخلاص في العمل.وأن سلاحهم هو حسن التعامل والمعاملة الحسنة التي تسر القلب وترضي الآخر من أقرانه إلى رب العمل.وأي مراجع لهم في أي شأن أو غرض لحل مشكل أو تذليل صعوبة أ وإنجاز معاملة,سيسر ويرضى بما يراه من سرعة وجدية.فالوقت عندهم هو أثمن ما في الوجود وكالسيف البتار إن لم تقطعه قطعك. وستجد كثيراً من العرب أو المسلمون المقيمون
في هذه الدول (مغتربين ومهاجرين وطلاب رزق) من هم أفضل حتى من مواطني هذه الدول في تأديتهم للعمل المناط بهم وبشكل مميز و نموذجي. وحتى في أوطاننا العربية والإسلامية ستجد كثيراً ممن على شاكلتهم ومن نفس النموذج. ولكن قل أن يخلو زمان أو مكان من وجود قلة لا تعبأ بالعمل أو الوقت,فلا هي تقدس العمل ولا تعطي للوقت قيمته, فتهمل أو تتهرب وتتقاعس في تنفيذ واجباتها مما ينجم عنه هدر حقوق الوطن وحقوق العامة والخاصة. وقد يصاب المرء بالإحباط حين يرى بعض من هؤلاء القلة يعتبرون أنفسهم أكبر وأجل وأسمى من العمل وصاحبه. ويظنون أنهم هم من يعطون العمل
الشرف, لا هو من يعطيهم الشرف والفضل والقيمة.واشتراط هذه القلة لتأدية عمل ما وجود المكتب والأثاث الفاخر, والاهتمام بالشكل والمظهر اللتان لاتسمن و تشبع , وميلها للظهور أمام أقرانها ورب العمل أو مديره وحتى المراجعين وهم على آخر شياكة وأحدث طراز بما يلبسونه من أحذية وملابس وربطات عنق وخواتم وأساور وفساتين من آخر الطرازات التي تواكب الموضة, مع زينة متخمة بكثير من الماكياج والرتوش والعطور. أو في إهمالهم لأبسط قواعد الهندام والقيافة. مع تعاملهم مع غيرهم بسوء خلق وبمكر ودجل ونفاق وخداع وكذب حرمهم الله ونهى عنهم. وعدتهم في ذلك نهج
بيروقراطي قوامه التسويف والتأجيل والمماطلة والكذب, وصلب المراجع في الانتظار ساعاتٍ وأيامٍ وشهورٍ طويلة لكي تنجز معاملته. كما فعل كلاً من الرئيسان بوش وبلير في تبرير غزوهما للعراق,وتأكيدهما على أنهم سوف يقبضان على أسامة بن لادن وسيقدمانه للمحاكمة.أو كما يفعله نوري المالكي في فبركته التهم والأكاذيب بحق سوريا والتي دفعت حلفائه لتكذيبه و دحض أفتراءته.
ومن هؤلاء القلة من يعتبر أن قيمته ودوره في العمل والمجتمع لا يكفيان لوحدهما في نيل حقوقه وتجسيد مكانته,لذا يعمد لتعزيزهما بصلاته من دوائر خارجية أو شركات كبرى ,أومن مسؤول أو أكثر, أو من عشيرته وقبيلته وطائفته وحزبه وعراقة أصوله وحسبه ونسبه وتاريخ أجداده, أو أنه من أبناء الذوات, كي يوفرون له الحماية والرعاية إن طاله القانون حين يخطأ أو يهمل أو يتقاعس أو يقصر أو يرتشي أو تفتضح أساليبه الملتوية. وحين يسقط ويتهاوى أو يفر هارباً ينبري في اتهام النظام والسلطة بأنها عدوانية,أو طائفية, وأنها تنتهك حقوقه المدنية بسطوة أجهزتها الأمنية.
أو أنها غير وطنية,أو أن رئيسها المنتخب مشكوك بجنسيته,وهذا ما يفعله ديك تشيني في محاولاته النيل من الرئيس باراك أوباما. وهذا ما تروجه بعض وسائط الإعلام والمواقع الالكترونية الصفراء والمشبوهة والعميلة ضد قادة شرفاء وأنظمة وطنية. ومن هؤلاء القلة ممن يزاحم ليكون في الصفوف الأولى موالاة أو معارضة حسب ما تمليه عليه مصالحه الشخصية أو يأمره به أسياده. وقد يجاهر بأن كل همه هو أن تبقى بلاده قوية ومنيعة ومرهوبة الجانب.وخير مثال على ذلك ما تشهده الولايات المتحدة الأميركية من هزائم وانهيار مؤسسات اقتصادية وتشويه سمعة نتيجة جنون العظمة
الذي طغى على معارضي الرئيس كلينتون فتحولوا في ظل الرئيس بوش إلى موالاة,ويدافعون بوقاحة عن شرعية التعذيب في السجون والمعتقلات السرية. وقد ينصبون من أنفسهم خبراء بكل أمر. ويظنون أنهم يفوقون سيدنا لقمان الحكيم في علمه وحكمته. والبون شاسع بين من يسخر الوقت ويستفيد منه لأداء عمله كي يكون منتجاً وقدوة ومثالاً يحتذي به غيره. وبين من يبدد الوقت ويهدره فيما لا يرضي الله أو يرضي ضميره أو يفيد به وطنه وجماهير وطنه .ومن هؤلاء القلة من يسخر دوامه لتحقيق مصالحه الشخصية ومآربه الخاصة,أو مصالح أهله وعشيرته وجيرانه وأقاربه وأحبابه ومن يملئن
له جيوبه, فلا يفيد سوى ذاته وزمر الفساد من حوله. وكثيراً ما تستغل هذه القلة عواطف بعض من فطر على حسن النية والطوية,أو هو جاهل ببعض الأمور القانونية أو الفنية أو الإدارية, لاستغلاله أبشع استغلال,وحتى تَجْييشه لتحميل السلطة والحزب كامل المسؤولية في معاناته ومعانة غيره, وكل خلل وصعوبة,ليدرؤوا عن أنفسهم كل شبهة ودنية.
والحقيقة أن هذه القلة إن وجدت في الغرب لا تعمر طويلا,فسرعان ما تتصدى لها الجماهير ووسائط الإعلام بجرأة وشجاعة وموضوعية وبدون تحيز أو محاباة.وباستخدامها لحقوقها المشروعة, وبإتباعها الطرق السليمة, لا الخاطئة والمعوجة,فتسقطها دون خوف أو رحمة. فعصر ثورة المعلومات سهل عليهما كثيرا هذه المهمة.
أما حين تلتزم الجماهير الصمت, أو تخاف وتهاب هذه القلة,أو تتقاعس وسائط الإعلام بمهمتها في البحث عن الحقيقة ونقلها بصدق وتجرد وشفافية, أو تهمل الجماهير بعض حقوقها, أو يتعاون البعض مع هذه القلة لتحقيق مصالحها الشخصية, أو تضلل الجماهير من بعض وسائط الإعلام السوداء والرمادية والمشبوهة بتحميلهم الحكومة المسؤولية, أو الانصراف للنيل من الأجهزة الأمنية , وترديد الشائعات المغرضة بهدف التنفيس عن بعض النفوس المريضة, والنيل من الرموز الوطنية والشريفة التي تجلها وتحبها وتحترمها الجماهير.فهذا سيساهم بإطالة أعمار هذه القلة ويقدم لها
الفرص على أطباق ذهبية. وهذا هو الهراء بعينه. وهذا هو التهرب من تحمل المسؤولية.فمسؤولية الفرد في المجتمع هو أن يكون خفيراً يزود عن وطنه.وأن يساهم بدوره بالكشف عن ملابسات واقعة أو حادثة ما فلا يبخل بالمعلومات الحقيقية كي يسهل على السلطة أو القضاء ملاحقة مرتكبيها ومن هو متورط فيها. وفي بعض دول الغرب يلاحق حتى من شارك بتزكية مرتكبيها أو من أقترحهم لهذا العمل أو ذاك المنصب,وقد يطال التحقيق المؤسسات التعليمية اللواتي منحته شهاداته ومؤهلاته الفنية والتعليمية والتربوية.وقد يعاد النظر بالمنهاج التعليمية والتربوية.
وهل كان الخليفة رسول الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه قادر على أن ينصف ذلك المصري لولا جرأته و شجاعته وقدرته على تحمل الصعاب والمشقات حين قصد المدينة كي يشكو إلى الخليفة عمر مظلمته؟
قد يفشل المرء في سعيه لما قد يعترضه من صعاب مرات عدة. إلا أنه بإصراره وعزيمته سيعيد الحق إلى نصابه. وغزو العراق خير شاهد حين نجحت إدارة بوش بتزييف الحقيقة وطمسها, وإعلائها الباطل على الحق بتكميمها الأفواه لسنوات عدة.بينما اليوم نرى كيف يزهق ذاك الباطل وينتصب الحق وكأنه مارد.والسبب هو مثابرة الكثيرون في تصديهم لصقور إدارة فاسدة بدون خوف وبعزم لا يلين وجهد دءوب, يشكرون عليهم.