ما أجمل قوس قزح
كعادتي كل صباح ، وقبل أن أشرب كوب القهوة السوداء بدون سكر ، قلبـّت الروزنامة ( التقويم ) الموجودة على طاولتي ، لتطوى صفحة يوم من حياتي ، فإذا بعيني تلقط حكمة اليوم الموجودة أسفل الصفحة أوتوماتيكيا بمقولة عظيمة تقول : ( أتق شر من أحسنت إليه )،
إنها مقولة شهيرة للإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) تواترتها الكتب وتناقـلتها الألسن على مر الأجيال بهذا السياق ، وهذا مايعرفه معظم الناس ، لكن مع الأسف المقولة مبتورة وهذا مايعرفه إلا ما ندر من الناس ! فالصحيح هو :
( أتق شر من أحسنت إليه بالإحسان إليه ) .
أي نعم .. فحري بنا أن نبلغ درجة الكمال في ( إعطاء الإحسان ) من الإنسان لأخيه الإنسان .. في شتى جوانب الحياة ، سواء الاجتماعية أو الروتينية أو العملية أو العلمية .. حوار كان أو غيره ، وأن نتقي شر من نحسن إليه إثناء حياتنا ومجادلاتنا، يوم بيوم ، وثانية بثانية .. قريب لنا أو بعيد .. ( حتى مع أنفسنا ) ، ولنجعل هذه الحكمة منطلق مهم لحياتنا نحن البشر .. فكلنا خطاؤون ، وينقصنا ثقافة مهمة وحيوية لنعيش بسعادة وسلام .. ألا وهي ثقافة ( فن المرونة ) ، وهذا هو مربط الفرس ! كما يقال بالعامية ، وأن تكون سالكة ودارجة بين طبقات المجتمع (أفـقياً أو عامودياً ) ومهما اختلفت الألمعية عن الكادحة ! وحتى بين المجتمع وباقي المجتمعات الأخرى .. والمقصود هنا بالمجتمع ، من يجتمع معك في الرأي أو الاعتقاد ، وأن لا ننسى المجتمعات التي سبقتنا واندثرت ، فيجب أن نكن لفكرهم الأحترام ، وأن نكـون عقلاء وأمناء ، وذوي مرونة مع أنفسنا خلال مراجعتنا ومقارنتنا لفكرهم وفكرنا .
لقد أمرنا الإسلام المقدس بالحوار المرن اللبق والهادف بقصد الفائدة المتبادلة ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) ، والذي يعتمد أساساً على إحترام رأي الآخرين بدون ( الإقصاء أو الإنقاص ) في مقامهم ومكانتهم ، ومهما نقص أو تدنى من يحاورك ويجادلك ، فلا تنظر إلي نقاط الاختلاف ، بل أنظر إلي نقاط الالتقاء، ومهما قل عددها .. فربما اختلفت معه في المسألة واحد وأثنين وثلاثة ، فربما تتفق معه في المسألة أربعة وخمسة وستة وهكذا سيدي .. وأن رأي الآخرين يحتمل الصواب ، وإظهار إن رأينا يحتمل الخطأ ، وبدون تعصب أو تعسر في الفهم ، ( والأهم من المهم نفسه ) أن لاينوي أو يهدف أحدى الطرفين بحضوره إقناع الأخر برأيه .. ( لا ! .. فهذا عين الخطأ ) ، وليكن الهدف عرض وافتراش كل شخص ما لديه أمام عقل الأخر ، فإن رضي به فخير ، وأن لم يفعل ، فليبقى الأحترام موجود بينما . بتلك المرونة ستكون الحوارات هادفة ومفيدة ، وسوف تصلنا إلى مبتغانا ، ومهما أغاظك الطرف الآخر ، لا تقف أو تحكم وأنت عند نقطة الغضب ، ولا تتربع فوق قمة الفوز خيالاً ( كرد فعل )
سيدي القارئ الكريم .. بادر باستمرارية العطاء والجدال من خلال الثغرات الطيبة والحسنة التي ستجدها وتتفق فيها مع الطرف الآخر ، فلربما فزت برضاه وتقبله لطرحك وهو مقتـنع ، وهنا نبلغ درجة الكمال واتقاء شر من نحسن إليه ، ومهما فهم البعض إن هذا هو التصعر ، أي إنزال المقام والخضوع للغير كما يفهمه البعض خطاً من الآية الشريفة ( ولا تصعر خدك للناس ) .
هل المحاور المرن يترك أثراً إيجابياً في نفسك ، ويؤثر على نفسيتك ؟
هل جربت المرونة في استمرارية الحوار حتى لو ساء إليك الطرف الآخر ؟
هل تتحكم في عواطفك أثناء الحوار وتبتعد عن المحسوبية ا لشخصية ؟
هل المرونة الحوارية تنجح مع العقول التي تواجهك في هذا الزمان ، سواء في الواقع اليومي أو في نقاشات الإنترنت ؟
لقد قال لي أحد الأجانب ، بعد أن قلت له إنني أتكلم عن الحوار المرن ، سوف أقول لك شئ بس ما تزعل !
بادرته ( نحن في دائرة حرية الرأي ) ، فقال : نحن الغربيون أفضل منكم أنتم أيها المسلمون في إدارة الحوار ، والسبب إنكم تدخلون المصالح الشخصية والمذهبـية في عمق الحوار ! .. فالهدف من الحوار ، هو عرض وجهات النظر المتباينة ، وإن لم ! فلن يصبح حواراً بالأصل، بل ( تحصيل حاصل ) ، لأن أطراف الحوار إذا كانوا يتحدثون باتجاه واحد ولا وجود للاختلاف بينهم في وجهات النظر لم يكن ذلك حواراً.. وهذا يعني أنه لا بد من وجود وجهتي نظر مختلفتين وأن لكل وجهة نظر فريقاً يدعمها ويدافع عنها ويتحمس لها بل ويسعى إلى تفنيد وجهة النظر الأخرى ضمن أصول وقواعد الحوار المتعارف عليها ويأتي في مقدمتها الاحترام المتبادل بين الطرفين المتحاورين.
وما نشاهده اليوم على الكثير من القنوات الفضائية من صراخ وشجار وهرطقة ( خذوهم بالصوت) في البرامج الحوارية المعروفة لا يمكن أن يرقى إلى مرتبة الحوار الهادف بل هو في حقيقته شجار لا يمت للحوار المثمر بأي صلة ، وينبغي أن نربأ بأنفسنا عن مثل هذه الممارسات والصور غير الحضارية.. وإن الذين يتكسبون من وراء المشاركة في مثل هذه البرامج الحوارية إنما يسيئون إلى أنفسهم وإلى الأجهزة التي ينتمون إليها ولا يمثلون طبقة المثقفين المتحضرين في إدارة الحوار المثمر الواعي.. فلا بد أن يعاد النظر في مثل هذه النوعية من البرامج وفي كيفية تأهيل كوادرها وأن نعيد النظر في قبولنا لها كمستمعين ومشاهدين لنبتعد عن الغوغائية ونرتقي بأسلوبنا في الحوار حتى نتهيأ لقبول الرأي الآخر والرأي المعاكس ونحاورهما ونحترمهما وننتقدهما علمياً.
ومما سمعت في حوار جرى بين اثنين أن أحدهما قال للآخر: هل لك في الحوار؟ فقال: ( على عشرة شروط : أن لا تغضب ، ولا تعجب، ولا تشغب ، ولا تحكم ، ولا تقبل على غير وأنا أكلمك ، ولا تجعل الدعوى دليلاً ، ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك ، إلا جوزت لي تأويل مثلها على مذهبي ، وعلى أن تؤثر التصادق ، وتنقاد للتعارف ، وعلى أن كلا منا يبغي من مناظرته أن يكون الحق ضالته والرشد غايته ).
أليست هذه قواعد ذهبية للحوار تغنينا عما سواها، ترى لو أننا التزمنا بهذه القواعد هل سيبقى هناك من يخاف أن يدلي برأيه؟ هل سيبقى هناك من يخاف الحوار ويخشاه؟ هل سيبقى بيننا وفينا من يداهن ويتملق ويستميت من أجل تشويه صورة الحوار من أجل الحصول على مكاسب ومطامع شخصية ؟ أما أنا فأجزم وبقوة وقناعة شخصية إن سار الحوار بتلك الشروط ، لن يجد هؤلاء مكانا بيننا (أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ).
هل تتمنى أخي وأختي القارئة أن تكون كل الألوان أصفر أو أزرق أو أخضر .. إذا فلنقل سوية : ( ما أجمل قوس قزح ) ..