دكاكين و بسطات
يُنفق الناس أكثر من نصف أعمارهم وهم يركضون من مكانٍ إلى آخر لتأمين حاجاتهم اليوميّة التي يعرفون من أين تبدأ لكنهم لا يعلمون متى وأين تنتهي .
تبدو هذه الحركة للمتابع عن بعد أنها مجرد دكاكين و بسطات وزحامٍ دائمٍ يتجدد عند كل صباح.
لكن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك .. فحتى الخضار والفاكهة / على سبيل المثال / قيمتها تختلف من مكان لآخر وتبعاً لمواصفاتٍ قد لا تكون حقيقيةً أو صحيحةً في الكثير من الأحيان.
والتاجر الحاذق لا يعرف فقط من أين تُأكل الكتف بل كيف و متى تُأكل أيضاً .. بمعنى أن هذا يشمل آلية تقديم المُنتَج و" أمبلاجه " يكون أهم من المُنتَج ذاته .. وهذه قاعدة اقتصادية قديمة و معروفة ترتبط بما يسمى التسويق.
طبعاً هذا الكلام لا يعني أنني من مؤيدي الغش أو التدليس بأي حالٍ من الأحوال لكنه مقدمةُ لكلامٍ باتجاهٍ مناقضٍ و معاكس .
إنها السياسة .. نعم السياسة !!
فمن قال أن الأفكار والشعارات والأهداف ليست بأمس الحاجة هي الأخرى للتسويق والإبهار والتلميع والتلوين والتزيين والتجدّد و كما هي الحياة بكل تفاصيلها ودروبها وتناقضاتها … وأنها ليست بعيدةً عن مبدأ العرض والطلب
بمعنى أو بآخر… هذا في حال الرغبة بأن تكون هذه الأفكار والشعارات والأهداف ابنةً حيّةً وشرعيةً للواقع المعاش على الأرض.
أميركا والغرب بشكلٍ عام وكذلك الأحزاب السائرة على نهجها في مناطق أخرى من العالم .. نجحت في تسويق قيمها وأفكارها بإصرارها على تقديمها بشكلٍ خارجيٍ براقٍ أو " أنبلاج " ساحرٍ آثرٍ … بالرغم من تناقضها الشديد مع المضمون أو الأهداف والغايات الحقيقية من وراء تلك الشعارات.
فالمتابع أو المستمع البسيط يركبُ سفينة الأحلام والخيال ليسافر من بلادٍ إلى بلاد وهو يستمع إلى كلمات وزراء خارجية أميركا المتوالين وهم يتحدثون عن قيم بلاد العم سام الرائعة و شمس الإنسانية التي لا تعرف المغيب … وضرورة نشرها في كل زاويةٍ و دارٍ و حديقةٍ ..!!
في حين تكون الأفعال أو النتائج الحقيقية لهذه الخطابات الوردية الحالمة المغطسة بالإنسانية والمشاعر الدافقة .. ملايين من القتلى و الضحايا و المشردين !!
اللعبة هي هكذا .. " أنبلاج " وخطابات طنانةٍ رنانةٍ زاهية الألوان فقط لا غير .. ولا بأس بحفنةٍ من صور تسلب العقول والعيون .. أما بقية الحكاية فلا أحد يهتم بها أو يلتفت إليها .. إنها السياسة هكذا وببساطة !؟
لعل مفهوم القوة بأشكاله المتعددة هو سيد الموقف .. لكن لا بد من الاعتراف بوجود أتباع ومريدين لهذا " البيت " المتعدد الألوان ! وفي كل مكان سواءً أعجب ذلك البعض أم لا .
الدكاكين والبسطات و المولات وحتى الأكشاك تتفنن بجذب الراغب أو المشتري وبوسائل وأساليب كثيرة متعددة .. ليسدد هو ثمن ما يختارهُ ومن ثم يقرر الاستمرار من عدمه .. اللعبة هي هكذا … و كذلك العمل السياسي والحزبي يجب أن يتحرك ويحيا بهذه الطريقة / مع الاعتراف بالاختلاف بين الحالتين / .. ليأتي المُريد أو الراغب على قدميه ليحصل على ما يريد ويشتهي … ويدفع بالتالي أثمان خياراته بكل عزمٍ وإرادةٍ وتصميم … اللعبة هي هكذا.
و لا أزال أذكر عبارة درسها أبناء جيلي في الثانوية العامة والتي تقول :
/ مشكلة التعليم أنه لا برّاق الثياب ولا حاضر النتيجة /
ويبدو أن هذا الأمر ينطبق على الكثير من الأشياء حتى الإعلام .. ففي كل يومٍ تُراقُ كميات وكميات من الحبر وتُسكب في مقالات جافةٍ ناشفةٍ ومكررةٍ .. لا يقرأها حتى من يكتبونها … ويكتفي هؤلاء الكتّاب " أنصاف الموهوبين " وربما أقل من ذلك بكثير .. بالاختباء وراء مبررات وأسباب غير صحيحة لإخفاء الشحّ الكبير في إمكانياتهم وقدراتهم الضحلة إضافةً لإصرارهم على الاستسهال و المراوحة في المكان .. بحجةٍ وبلا حجة .. فمن قال لأمثال هؤلاء " السادة الكتّاب " أنهم لا يستطيعون الكلام عن الوطن والسياسة والتاريخ والجغرافية والمستقبل و الهم العام بكل تفاصيلهِ .. بحروفٍ ومفرداتٍ تنبض بالحياة والحيوية والدفء !؟ تتسرب كأشعة الشمس في يومٍ شتائيٍ باردٍ إلى كل زقاقٍ و وادي .. فتقدم كوجبةٍ شهيةٍ ساخنةٍ طيبةَ المذاق والنكهة .. يسعى إليها كل طالبٍ أو مُريد.
حتى الخير المُطلق يعاني ويجاهد كثيراً للبقاء على قيد الحياة .. فما بالك بأي شيء آخر…
المؤكد أن اللعبة هي هكذا … وأعتقد أن الحياة كذلك .