احتواء دمشق وفكّ تحالفــها مع طهران
من «مفاجأة» الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز في قمة الكويت، إلى «مفاجأة» وزير خارجيته الأمير سعود الفيصل في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة يوم الثلاثاء الماضي، تتبلور أكثر فأكثر،
معالم تباين (صراع؟) داخل قيادة المملكة، لم يعد خافياً على أحد. وزير الخارجية السعودي، المخضرم والطامح إلى لعب دور أكبر (وربما مقرّر) في المرحلة المقبلة (وخصوصاً في مسألة خلافة الملك الحالي)، يمثّل، دون مواربة، رأس الحربة أيضاً في فريق «المحافظين الجُدد» (والقدماء!) السعوديّين الذين يحاولون مواصلة دورهم السابق في مشروع «الشرق الأوسط الجديد» بعد سقوط أصحابه في واشنطن.
وبشكل مباشر ومواظب، يواصل وزير خارجيّة المملكة محاولة منع إدخال أي تعديل على سياسة بلاده وعلاقاتها. يحصل ذلك، رغم تخلّي الأميركيين عن الإدارة البوشية السابقة، ورغم تعثُّر مشاريع هذه الإدارة في المنطقة والعالم، ورغم الأزمة الماليّة الأميركيّة التي عصفت بالاقتصاد الأميركي (والدولي المعولم)، ورغم اتّجاه الأميركيّين إلى تبنّي التغيير في سياساتهم ومقارباتهم وبعض علاقاتهم الخارجية والعربية، ورغم مجازر الصهاينة في غزة وصمود مقاومتها وشعبها في وجه العدوان البربري غير المسبوق عليها…
يحصل ذلك أيضاً رغم ما تضمّنه خطاب الملك السعودي في قمة الكويت في شهر كانون الثاني الماضي، من نقد ذاتي بشأن سياسات المملكة وعلاقاتها العربية والدولية التي أضعفت الموقف العربي وأغرت العدو الصهيوني بالغطرسة والتصعيد والعدوان والمجازر. ثم رغم ما باشره الملك نفسه من ترجمة لدعوته التصالحية في القمة، بإرساله مدير استخباراته المقرب (وأحد أعضاء فريقه) الأمير مقرن، إلى دمشق لفتح صفحة جديدة في العلاقات المتوترة بين البلدين.
في اجتماع وزراء دول «الاعتدال» الذي دعا إليه وزير الخارجية السعودية بعد قمة الكويت في أبو ظبي، حاول سعود الفيصل التركيز على التدخّل الإيراني (وهو تدخّل غير مرغوب فيه وفق البيان الصادر). وفي كلمته في الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب، فاجأ الوزير السعودي المشاركين بالتركيز على «التحدّي الإيراني». في أسوأ الحالات، بالنسبة إلى سعود الفيصل وفريقه، يجب قصر الانفتاح السعودي على النظام السوري دون النظام الإيراني. أكثر من ذلك، يجب أن يكون هذا الانفتاح مشروطاً بفك التحالف أو إضعاف العلاقة القائمة منذ بدايات الثورة الإيرانية (منذ ثلاثة عقود)، ما بين دمشق وطهران. هذا، أيضاً، هدف تسعى إليه تل أبيب (علناً) وإدارة الرئيس ساركوزي أيضاً بشكل غير مباشر وسواهما…
ولهذا الفريق في المملكة أهداف عدّة. أبرزها عدم التسليم بدفع الثمن المطلوب بسبب فشل المشروع الأميركي الذي كان هذا الفريق وكل السلطة السعودية يراهنان على نجاحه وعلى قدرته على هزيمة الخصوم المشتركين. ذلك يعني، بشكل آخر مكمِّل، محاولة استدراج الإدارة الأميركية الجديدة الى اعتماد السياسات السابقة نفسها في المنطقة، ولو اختلفت بعض الوسائل. كما يسعى هذا الفريق السعودي الى استمرار اعتماد استراتيجية التعويل على تزعم فريق «الاعتدال» العربي وتوسل الانقسام المذهبي أداة فعّالة (فضلاً عن المال) في تفعيل دور هذا الفريق ونفوذه.
والأخطر في كل ذلك، هو استمرار تبني شعارات الإدارة الأميركية السابقة نفسها، في تشخيص الصراع القائم في الشرق الأوسط، باعتباره صراعاً ضد «العدو الفارسي»، وضد «الإرهاب» وداعميه، وضد المقاومة بكل أشكالها…
ويكاد الدور الذي يمارسه الفريق السعودي (وفي واجهته الوزير سعود الفيصل)، يكون مكملاً للدور الإسرائيلي الذي عبّر عنه قادة إسرائيل، الموالون والمعارضون، في لقاءاتهم مع وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، في زيارتها الأولى إلى الدولة العبرية، بعد توليها منصبها. فالتشديد على «التحدي الإيراني» من جانب سعود الفيصل هو الوجه الآخر للتحذير من «الخطر الإيراني»، من جانب زعماء الدولة الصهيونية. فالهواجس تكاد تكون متطابقة. والتحرك يكاد يكون منسقاً. والتوجهات العامة تكاد تكون واحدة، لدى كل من هذا الفريق السعودي الأشد ارتباطاً بالإدارة الأميركية السابقة، والقيادة الإسرائيلية بمختلف اتجاهاتها وتلاوينها!
بكلام آخر، يحاول فريق سعود الفيصل (وولي العهد الذي يعاني من المرض، وبندر بن سلطان وآخرين) إفراغ مبادرة الملك السعودي من أي محتوى جدي يمكن أن يؤثر في علاقات المملكة وسياساتها ومواقفها. لا تغير في ذلك زيارته منذ يومين إلى دمشق. حديث الرئيس الأسد أثناء اللقاء مع الوزير السعودي عن إدارة الخلافات، تأكيد واضح على استمرارها!
وفي السياق ذاته، كان مؤتمر شرم الشيخ لدعم الاقتصاد الفلسطيني وإعادة إعمار غزة، حافلاً بالدلالات التي تؤكد ما ذهبنا إليه. فرغم سخاء المبلغ المقرر (حوالى خمسة مليارات دولار)، فإن الثمن المقابل، لا يقل، في الواقع، عن محاولة إلغاء المقاومة، واعتماد سقف شديد الانخفاض للموقف الرسمي الفلسطيني. إن هذا المبلغ السخي هو الجزرة التي يلوَّح بها للشعب الفلسطيني.
وفي خلاصات لا يجوز اتهامها مطلقاً باعتبارها محاكمة للنيّات، يمكن ربط تحركات عدة في سياق واحد، أو حتى اعتبارها حلقات متكاملة فيه:
ـــــ المحاولات المحمومة من فريق المملكة الأشد ارتباطاً بالسياسة الأميركية السابقة، لقطع الطريق على إحداث أي تحولات جديدة في التوجهات والعلاقات التي حكمت السياسة الأميركية في المنطقة، وخصوصاً منذ غزو العراق عام 2003، وحتى يومنا هذا!
ـــــ المحاولات الرسمية المصرية لاحتواء «حماس» وفرض انضوائها في سياسات محور «الاعتدال» العربي لقاء ثمن زهيد في حكم غزة تحت الوصاية المصرية وكثير من الأموال التي يمكن أن تتدفق على الحركة من قبيل الرشوة، لا على سبيل الدعم.
ـــــ المحاولات الإسرائيلية لرفع سقف العدوان ممهوراً بتوقيع غلاة المتطرفين الصهاينة، القدماء والجدد، ممن سيقفلون احتمالات التفاوض المتوازن والمبني على القرارات الدولية بخصوص القضية الفلسطينية…
دور هذا الفريق، في المملكة، ليس جديداً في الواقع. لقد روى أحد مستشاري الرئيس العراقي جلال الطالباني، في زيارة له إلى لبنان منذ أقل من سنة، أن قيادة المملكة العربية السعودية، هي الأكثر تمسكاً بالوجود الأميركي في العراق، والأكثر تعويلاً على نجاحه في تحقيق أهدافه. وفي لقاء مع وفد من «حزب الله» زار المملكة والتقى الملك السعودي عبد الله، في مرحلة التجاذب على تأليف الحكومة في لبنان (بعد عدوان تموز عام 2006 واندلاع النزاع الداخلي اللبناني بشأن الحكومة وسياساتها والحصص داخلها)، كان الملك السعودي شديد التجاوب مع حق المعارضة في أن يكون لها الثلث الضامن أو المعطل في تأليف الحكومة الجديدة. بدا الملك في ذلك اللقاء متعجباً من تواضع مطالب المعارضة التي كان أحد أقطابها قد انتصر في الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على لبنان. ومع ذلك، تدخل الوزير السعودي في حضور «سيّده»، إلى لفت نظر الملك، بأن الأمور في لبنان لا تجري، كما في البلدان الأخرى، بل هي محكومة بالخصوصيات والتوازنات الداخلية! لم تتألّف الحكومة يومها. وقد استدعى تأليفها، وفق مطالب المعارضة، صراعاً سياسياً وإعلامياً وعسكرياً، كانت ذروته في السابع من أيار 2008 ونتائجه في «اتفاق الدوحة» بعد ذلك، في العاصمة القطرية.
أسباب الصراع في المنطقة التي رافقت الغزو الأميركي للعراق، لن تزول بمجرّد الهزيمة الأميركية في العراق، ووصول باراك أوباما إلى السلطة في واشنطن.
إن للمشروع الذي حاول «المحافظون الجدد» فرضه، قواه أيضاً في المنطقة. الصراع، إذاً، سيستمر، ولا بد من مشروع مواجه يجمع كل القوى الحريصة على مصالح شعوب المنطقة وعلى سيادتها وثرواتها وعلى حقوق الشعب الفلسطيني.