صراع على نار هادئة بقلم : مأمون شحادة
قامت تجربة التحديث في تركيا على قاعدة تاريخية تميزت بانهيار السلطنة العثمانية بعد اكثر من خمسة قرون، كانت في بدايتها السلطنة من اقوى دول العالم واستمرت في منعتها حتى
القرن التاسع عشر حين اصبحت كمريض لا امل بشفائه. وقد اعتمدت تركيا الحديثة في عهد مصطفى اتاتورك سياسة جديدة…. نتج عنها اضعاف للروابط الثقافية والتاريخية ما بين تلك المرحلة وتركيا الحديثة خاصة بعد الغاء الحرف العثماني وابداله بالحرف اللاتيني . وفي ظل الجمهورية التركية الحديثة تمت ازالة السلطنة العثمانية بشكل اثار نقاشا حادا في الاوساط الاسلامية، التي اعتبرت قرار مصطفى كمال بالغاء الخلافة اعلانا صريحا عن ابتعاد تركيا مستقبليا عن مبادئ الشريعة الاسلامية، هنا انتهى الكاتب مسعود ضاهر في وصف انهيار الامبراطورية العثمانية .
… نعم هي ردة الفعل على السلطنة العثمانية، التي ضحت بكل قواتها في سبيل التوسع شرقا وغربا رافعة شعار الاسلام في توسعها، الذي ادى الى تغيير هذا الشعار " كردة فعل " ليصبح الاسلام في نظرهم اسلوبا للانهيار والتراجع والهزيمة " الرجل المريض" ، مما دعا الى محاربة اي ظاهرة اسلامية متواجدة في تركيا من اجل النهوض بالدولة التركية في مواجهة اي تهديد داخلي، لان تركيا لم تعد تتحمل ارث الماضي المرير، الامر الذي يستدعي ايجاد تركيا الجديدة ذات الصفة العلمانية، الديمقراطية، الحداثية، لان المجتمع التركي اذا اصبح علمانيا ( بالتنشئة والتعود) سوف ينسى السلطنة العثمانية ومرارة انهيار الامبراطورية، ذلك لان المجتمع التركي تربى فكريا على يد السلطنة باعتبار ان الدين الاسلامي مقوما فكريا وثقافيا مرتبط بالمشاعر القومية التركية، الامر الذي دعا الى ايجاد خط ممنهج للابتعاد عن افكار الامبراطورية وتحويلها الى دولة حديثة . وحتى تستطيع تركيا ان تصل الى حالة من الحداثة كان يجب عليها ان تصل الى دسترة البلاد وهيكلتها باعتباره الطريق السليم للوصول الى الحداثة .
ان المجتمع التركي بافكاره وثقافته وقوميته مرتكز على الدين الاسلامي، الامر الذي شكل حالة تخوف تنتاب المجتمع التركي اتجاه الفكر الغربي على انه يحاول تدمير القيم والافكار العثمانية . صحيح ان الاتراك كانوا لا يريدون الامبراطورية، لكن شعورهم واحاسيسهم اسلامية تابعة للماضي العثماني، الذي جعل من صياغة تركيا الحديثة صعبة تواجهها اشكاليات وتحديات تقف امام انجاح مشرع تركيا الحديثة، ليتضح ان انجاح هيكلة البلاد ودسترتها وعلمنتها كان لا يمكن ان ينجح الا بمؤسسة الجيش، مما ادى الى صراع بين المؤسسة العسكرية " الحداثة " ، والاسلاميين " الاصوليين "، اخذين بعلمنة تركيا لانجاح معادلة التغيير والتحديث وفق القوة الجبرية لمؤسسة الجيش، التي اصرت على قيام تركيا الحديثة عن طريق هذه المؤسسة.
من هنا اخذت تبدو نظرة الضباط الاتراك للاسلام السياسي على انه تجمعات لافراد بعيدون عن الانضباط، وتحركهم مصالح شخصية وفئوية ( الشعارات التي لا تلائم الواقع )، جازمين ان لا تؤدي تلك الاحزاب السياسية الى تفتيت الامة التركية ما بين المصلحة والطبقية، ليتبين ان ثمة تناقض خطير بين الاصولية ودعاة الحداثة ( الجيش )، لان الثقافة الاسلامية ( من وجهة نظر مؤسسة الجيش )لا تعطي فرصا لاقامة دولة التنوع الديمقراطي التي يسودها التسامح مع الاخرين، مما دفع تلك المؤسسة لاقامة الديمقراطية المنافية للاسلام ( في نظرهم)، الامر الذي يجعل من تلك المؤسسة تتدخل في امور الدولة لحمايتها اذا حدث اي انحراف في مسار تشكلها الحداثي، فاعتبرت نفسها حاميا للدستور والاتاتوركية، لانتشال البلاد من اي ازمة اقتصادية وسياسية ،مترافقا ذلك بالقضاء على اية ازمة للتطرف في الشارع التركي، وهذا ما اكده رئيس الاركان الجنرال اسماعيل حقي قراداي" اننا في الجيش التركي مصممون على حماية الجمهورية الديمقراطية العلمانية، ولو بالتضحية بارواحنا" مؤكدين ان الجيش جيش الدولة، وليس جيش النظام. الذي ادى الى قيام انقلابات عسكرية قامت بها مؤسسة الجيش اعوام 1960، 1971، 1980 .
اذا، المؤسسة العسكرية اسست مشروع الحداثة وهي المراقب المخول على صحة سير الدولة، وعندما كانت ترى ان ثمة خروج على دستورية اتاتورك، تدخلت لحماية الدولة وليس لحماية النظام، والتركيز على ان يبقى الاسلام دينا داخل اطار الحياة الخاصة بالفرد، دون التعدي على دستورية الدولة وقلب مفاهيم العلمانية، مع الاعتماد على سياسة خارجية واحدة يتفق المجتمع التركي عليها- وليس جعلها واجهة للصراع الداخلي ما بين الاسلاميين والعسكريين- لتعزيز موقع تركيا عالميا للموازنة بين القوى الداخلية والضغوطات الخارجية لبناء معركة الحضارة قبل معركة السياسة.
ان مؤسسة الجيش التركية خاضت الانقلابات لحراسة العلمانية والديمقراطية والسير نحو الحداثة، حيث تزامن ذلك مع تطور اجتماعي وسياسي متسارعين في المجتمع التركي جاعلا من النخبة التركية لا ترى في الانقلابات العسكرية " حلاً " لحماية الديمقراطية، بل ترى فيه تهديدا للديمقراطية،…اذ يتبين ذلك من خلال التهديد الذي وجهه قادة الجيش التركي بإحداث انقلاب عسكري في يونيو 1997، للاطاحة باربكان، حيث عارض ذلك اتحاد الصناعيين ورجال الاعمال ونادوا بالحل الديمقراطي، مما يعني ان تدخل قوى الاقتصاد التركية ( من وجهة نظر الجيش التركي) حساسة للغاية ، لان الجيش حريص على حماية الوضع الاقتصادي معتبرا اياه احد الاسباب المهمة للانقلابات السابقة، مما يعني ان هناك وعياً فكرياً تدريجياً اكتسبه المجتمع التركي للنهوض بتركيا، بحيث اصبح تدخل الجيش محكوما عليه بعوامل داخلية وخارجية ، داخلية: بتدخل قوى الاقتصاد التركية منادين بالحل الديمقراطي السلمي، وخارجية: لان الجيش يحاول توحيد الصفوف الداخلية للمجتمع التركي ضمن اطار العلمانية و الديمقراطية لرسم سياسة خارجية واحدة تواجه فيها ضغوطات الدول الكبرى بشأن الوضع الداخلي التركي – حينها يدخل التناقض – باعتبار ان تركيا غير ديمقراطية في تدخل الجيش . امام هذه التطورات تعذر القيام بانقلاب عسكري جديد، مما ادى بالجيش للقيام بانقلاب مدني للاطاحة بالاسلام السياسي، للموازنة ما بين القوى الداخلية والضغوطات الخارجية .
ان هذه التغيرات جعلت من شكلية الصراع البيني في تركيا تتغير وجهاته النظرية في التطبيق على ارض الواقع ، من خلال، ان اربكان " سابقا " ( حزب الرفاه الاسلامي ) واثناء ولايته كان يعتبر ان المؤسسة العسكرية هي معادية للاسلام، ووجوب اسلمة تركيا غصبا عن تلك المؤسسة، اما على زمن حزب التنمية والعدالة الاسلامي تطور الفكر الاسلامي في اطار المصلحة الداخلية للمجتمع التركي وفق تغييرات جوهرية اختلفت عن السابق ( لحزب الرفاه )، من خلال تفادي الصدام مع المؤسسة العسكرية، ووجوب حل الاشكاليات بالطرق السلمية، واعتبار ان المجتمع التركي اسلامي وعلماني في آن واحد.
من خلال ذلك تمكن المجتمع التركي "و بالتدرج " من ازالة التناقض في الداخل العلماني والداخل الاسلامي، الذي كان دائرا فيما بينهما ( الاتهام واتهام الاخر )، بحيث اصبح المجتمع التركي ينظر الى الحزب الاسلامي، حزب غير معادٍ للعلمانية، وان العلمانية غير معادية للاسلام، …بما معناه "الاسلام جزءاً من العلمانية و العلمانية جزءاً من الاسلام"، فتغيرت بذلك النخب التركية من نخب ايديولوجية الى نخب غير ايديولوجية تعايش و تتماشى مع الواقع، من اجل مصلحة الشعب التركي .
ان الفترات المرحلية والحراك الاجتماعي الداخلي الذي حدث للمجتمع التركي في دمج وجهات النظر المختلفة ما بين الاسلام والعلمانية منتجا معادلة توافقية قوية في تغيير جميع المجالات الحياتية من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، عن طريق فكفكة النظرة الاسلامية واذابتها في المجتمع التركي، اخذ الاتراك يتطلعون الى مستقبلهم الذاتي المرتبط بالعلاقات الخارجية. و اخذت المؤسسة العسكرية تدعو الى عقلنة السياسة وعدم استخدام القوة للنهوض بتركيا من خلال فكفكة الاتاتوركية وصهرها بالنظرة الاسلامية منتجاً " الاسلامي العلماني- العلماني الاسلامي "… نعم، لقد غادرت تركيا الماضي وتحولت الى تركيا جديدة تخاطب العالم اجمع .
ان الفكر السياسي الجديد لتركيا غيَّر تركيا الى ما هو احسن ( من وجهة نظر المجتمع التركي ) بتعزيز مفهوم الديمقراطية والغاء تصارع الضد والضد البيني ما بين المؤسسة العسكرية والاسلام السياسي، ليتضح و كمثال ، ان علاقة البرلمان التركي بالمؤسسة العسكرية وعلاقة البرلمان بمؤسسة الامن القومي كانت "سابقا" منفصلة عن بعضهما في ظل سيطرة مؤسسة الجيش ممثلتا بمجلس الامن القومي، حيث تغيرت تلك المفاهيم ولم تعد كالسابق ، و ايضا خضوع مؤسسة الجيش لرقابة البرلمان مقابل امتيازات مع جنرالات الجيش، بالاضافة الى استحداث قوانين جديدة تطال فيها ( مساءلة) رموز عسكرية في مؤسسة العسكر، وإخضاع موازنة الجيش للرقابة المالية.
ان تركيا وبعد توحيد صفوفها الداخلية " اسلامي، علماني " تقوم الان بايجاد حلول للقضايا العالقة، كقضية الاكراد ( العدالة الاجتماعية)، والذي يعني ان التجربة التركية هي تجربة شاملة وعميقة بوضع برامج متكاملة، وخطط شاملة لتحولات جذرية في كافة المجالات الحياتية… بما معناه ان النظرة السابقة لمؤسسة الجيس تجاه القضية الكردية اختلفت عن السابق ، وهذا ما اوضحه عبدالله ايدوجان المختص بالشأن التركي… ان "اعتراف القيادة العسكرية بوجود هوية وطنية جامعة لكافة الاتراك، تحتها هويات فرعية، يدل على ان العسكريين اضحوا يعترفون بكيان كردي داخل الاراضي التركية، في اشارة الى ما قاله الجنرال "الكر باشبونج" رئيس قيادة الاركان العامة في حديثه عن الهوية ، بعبارة " شعب تركيا " بدلا من عبارة " الشعب التركي " في تأكيد منه على ان الـ" شعب" الذي يعيش فوق ارض الجمهورية التركية ويحمل الجنسية التركية يضم اعراقا اخرى غير التركية ، ليتبين ان النية قادمة لبناء هوية جامعة دون اهدار للهويات الفرعية"
ان تركيا الجديدة تغيرت عن الماضي وتوصلت الى حالة فريدة من نوعها تسودها الديمقراطية وفق عدة اطوار "مرحلية " في تقبلها للواقع المجتمعي من خلال الاستناد الى عدة ركائز بنيوية ابرزها العمل على تطوير المجتمع التركي من مجتمع ريفي، زراعي، تقليدي الى مجتمع مدني، صناعي، حديث، ليؤكد ان التنشئة السياسية نجحت في اكساب الفرد التركي ثقافة سياسية يتحصن بها ذلك المجتمع .
ولكن هناك عدة نماذج في الوطن العربي تبين مدى الصراع الدائر ما بين المؤسسة العسكرية والاسلام السياسي، فهل كان هذا الصراع مشابه للتجربة التركية ؟ .. ام انها غير ذلك !!
ان تجربة الجزائر شبيهه بالتجربة التركية. وكما قال الكاتب رضا هلال المختص بالشأن التركي "النموذج التركي لدور الجيش في السياسة، كان ملهما للعسكر الجزائريين، فيما حدث بالانقلاب العسكري على نتائج الانتخابات النيابية عام 1992، التي فازت فيها جبهة الانقاذ الاسلامية ، ولكن تركيا تختلف عن الجزائر وليس هناك وجها للشبه في عمليات التفجير التي حصلت في الجزائر بعد الغاء الانتخابات، حيث ان اربكان ظل يشدد على ان تركيا ليست الجزائر او ايران، والذي يدل على الاعتدال الاسلامي في تركيا. اضافة الى ذلك تجذر القومية التركية. فالحركة الوطنية التركية، خلال حرب التحرير وبعدها، كانت تعتبر نفسها" تركية "، بينما كانت الحركة الجزائرية حركة " اسلامية " ضد الكفار الفرنسيين. ولذلك، فان الاتراك – بعكس الجزائريين – لا يجدون تناقضا ذهنيا بين كونهم مسلمين ومواطنين في دولة علمانية، ولكل تلك العوامل، فان العنف الاصولي الاسلامي، لم يجد بيئة مواتية، ولن يكون له مستقبل، في تركيا. مما يفسر لماذا لم تتحول تركيا الى جزائر اخر بعد اقصاء اربكان من رئاسة الحكومة وحظر حزب الرفاه الاسلامي" . فثمة اجماع بين الدارسين للحالة التركية، على اعتدال الاسلام التركي.. ففي استطلاع للراي اجري عام 1986، لم يوافق الا نسبة 7% على اقامة دولة اسلامية تطبق الشريعة الاسلامية. وفي استطلاع اخر، اجري عام 1995 ايدت نسبة الثلثين التوجه الغربي لتركيا. وفي استطلاع ثالث، عام 1996، تبين ان 41% من الذين صوتوا لحزب الرفاه، اعتبروا انفسهم علمانيين وان 71% اعربوا عن ثقتهم بالجيش الذي يعتبر رمز العلمانية .
ان تركيا نجحت في صياغة القالب التركي ودمجه ما بين اسلامي وعلماني بعد صراع مرير بينهما، محققين في ذلك اروع صورة عرفتها تركيا، والتي لم يعرفها العالم اجمع الا الهند واندونيسيا… ان تركيا الان " وبعد مخاض صعب " تسير على الطريق الديمقراطي، لايجاد هوية جامعة يسودها القانون و العدالة الاجتماعية، ومهما تكن الظروف الحالية والمستقبلية من مشاحنات داخلية، لن تعيد تركيا الى ما كانت عليه سابقا، لان تركية مصممة على ان لا تعود الى مرارة الماضي، لانها نجحت في صياغة المعادلة التركية والسير نحو الطريق المؤدي لابواب الاتحاد الاوروبي .