يا فجر بيروت عجل قليلا بقلم د. صلاح عودة الله
انها ليست كغيرها..انها ذكرى تضرب في أعماقنا كل سنة, بل كل شهر وكل يوم وكل لحظة..انها ذكرى لا تغيب عن أنظارنا..انها مجزرة العصر..انها أبكت الشجر والحجر, لكنها عجزت أن تبكي الكثير من البشر فهم ليسوا بشرا..انها مجزرة صبرا وشاتيلا.
"لا ننسى..و يدلنا الحنين لهم..و يذيعُ بهم الفخر فخرا..هم ألف اسم في الشهادة..خالد و نور..و أحمد..و جفرا..هم ألف اسم للسيادة..محمود و إبراهبم و سرور و خضرا..صبرا شاتيلا..شاتيلا صبرا..ما أصعب الموت غدرا..لا ننسى..من ينسى"؟.
في مثل هذه الأيام ولكن قبل سبعة وعشرين عاما حوصرت بيروت ودخلها الجيش الصهيوني, وفي يوم من أيام هذا الحصارقال شاعرنا العربي الفلسطيني الراحل محمود درويش:يا فجرَ بيروتَ الطويلا..عجّل قليلا..عجّل لأعرف جيداً:إن كنتُ حياً أم قتيلا..!.
انها صورة رائعة تنقلنا الى جريح ما بين الحياة والموت، ملقى في شارع او زقاق من أزقة بيروت، لديه أمل بأن يساعده نور الفجر على رؤية جراحه، ورؤية المسافة ما بينه وبين الموت..غير أن هذه الصورة الشاعرية الرائعة ما هي الا الصورة الواقعية لما جرى على أرض صبرا وشاتيلا خلال الأيام الثلاثة الدامية من أيلول قبل سبعة وعشرين عاما, بل لكل ما جرى بعدها من عذابات حتى أيامنا هذه.هناك ما زالت المسافة بين الموت والحياة غير مرئية..هناك ما زال تحت التراب كثير من الضحايا الذين لم يثبت موتهم بعد، وهم الذين يقال لهم"مفقودون", ونحن نراهم كما نرى الآخرين الذين ثبت موتهم، في صور على الحيطان، ونعرف عنهم من أحاديث أهاليهم..هؤلاء وهؤلاء هم"الضحايا الأحياء".
وما زال على أرض صبرا وشاتيلا"الأرض المقدسة" أهالي الضحايا يتسقطون أخباراً عن مخطوفيهم ومفقوديهم، ولا ييأسون من رحمة الله, وبين الحين والحين يجدّون لمعرفة المزيد من أخبار ضحاياهم، فمن قال إن ضحايا المجازر كغيرهم من الضحايا؟, كضحايا الزلازل او البراكين او الأعاصير؟, فضحايا كوارث الطبيعة لا تنكرهم دولهم، ولا المؤسسات الدولية، ولا ينكرهم أحد..أما ضحايا المجازر، فهم الذين يُطالَب (بفتح اللام) أهاليهم بتقديم هوياتهم، وتقديم إثباتات موتهم، وإلا..فأسماؤهم لا تسجل في لوائح الضحايا..هؤلاء الأهالي المعذبون هم"الأحياء الضحايا".
صبرا وشاتيلا ليست مجرد مكان، ولا مجرد مجزرة على لائحة المجازر الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، او الشعب اللبناني، او أي شعب عربي مقاوم..صبرا وشاتيلا مجموعات من البشر كان من حقهم أن يستمروا في حياتهم، حتى لو كانت حياة فقر وتشرد، وما كان من حق احد ان يسلبهم حياتهم، او أمنهم، او كرامتهم، او لقمة عيشهم، في اية صورة من الصور، فما بالنا حين تكون تلك الصور على أشد ما يكون عليه العدوان همجية.
صبرا وشاتيلا..حكاية شعب كل ما اراده هو الحياة وكل ما حصل عليه هو الموت, ولكنه وبالرغم من كل ما مر به ما زال واقفا بعنفوان يتحدى وينتصر..بعدما غابت الحقيقة خلف الأفق كالشمس ولكن بلا عودة وبعدما كان كل مخيم وكل ساحة ملعب لتركيع وسفك دماء الشعب الفلسطيني أصبح من العار التخفي في تقاليد الجبن والرجعية..فها هي المجزرة تدخل عامها الثامن والعشرين بلا إسم..بلا عنوان..بلا قضية..محت أمواج الصمت الألوان ومات صدى الدماء في جوف الأرض.
مجزرة صبرا وشاتيلا هي واحدة من أبشع مجازر القرن العشرين، وهي واحدة من صور الإجرام التي لم ولن تنسى ولم يستطع غبار الزمن إخفاءها، كما لم يستطع التاريخ طمس معالمها، فهي باقية لم تغيب وحية لن تمت على الإطلاق، رغم محاولات قتل ذكراها، ماثلة أمامنا، محفورة في أذهاننا و عقولنا، رغم محاولات مسح آثارها، شاهدة على أبشع صور الإجرام والقتل والعنجهية.
صبرا وشاتيلا عكست حقيقة سفاحو ومجرمو المجزرة الذين بقروا بطون النساء بالسكاكين، وذبحوا الأطفال الرضع، وقتلوا الأجنة في البطون، وأعدموا الشبان والرجال في الشوارع، وغدت تلك المجزرة معلماً من معالم معاناة الفلسطينيّين التي لم تتوقف بعد..يروي احد المصورين الذين سجلوا وقائع الجريمة بالعدسة أنه خاف من فظاعة ما رآه وأحس بخسارة انسانيته على حساب مهنته، وقال:"للوهلة الأولى شعرت اني اصبحت عدسة فقط ولم أعد انساناً، لأن الانسان لا يستطيع تحمل هذه المشاهد المرعبة".
في الذكرى السابعة والعشرين لمجزرة صبرا وشاتيلا نقول إن مرتكبي المجزرة معروفين للقاصي والداني، وعلى جميع المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والعربية والدولية تحريك الدعاوى ضد مرتكبي مجزرة صبرا وشاتيلا وتقديهم للعدالة، لأن جريمتهم لا تسقط بالتقادم، فهي جريمة حرب بامتياز.
ان الحركة الصهيونية ما زالت تنتج كل عام، بل كل شهر، كتبا جديدة، وأفلاما جديدة، وروايات جديدة، عن"الهولوكوست"، هذا بالإضافة الى تشييد المتاحف، وإقامة أجنحة خاصة بأرشيف الهولوكوست في الجامعات الكبرى.وكل هذا، والصهيونية ما زالت تعتبر نفسها في موقع الضحية، متجاهلة أحيانا، ومتباهية في أحيان أخرى، بأنها أصبحت هي الجلاد..!, ومن مهازل العصر ادعاء هذا الجلاد بأنه لا يفعل شيئاً سوى الدفاع عن نفسه.
انهم لا ينسون..فلماذا ننسى؟..انهم يفعلون..فلماذا لا نفعل؟..انهم حولوا أنفسهم من جلادين الى ضحية..فلماذا نصمت؟..ومتى ندافع عن ضحايانا؟, متى ندافع عن وجودنا؟, ومتى ندافع عن مستقبلنا؟.
تحية اجلال واكبار للضحايا الأحياء والأحياء الضحايا..واننا حتما لمنتصرون.