الدراما التركية تهزمنا.. حتى في فلسطين!
دخلت تركيا بيوتنا، دون استئذان، بعد أن احتلت شاشتنا بمسلسلاتها التي أدخلت محاكم العرب ومحلّليهم الاجتماعيين والنفسيين ومشائخهم بفتاواهم في حالة استنفار بسبب التأثّر الغريب بكلّ ما يلقي به البوسفور على ضفاف الشاشة العربية.
بعد موقعة دافوس الشهيرة بين رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الكيان الإسرائيلي شمعون بيريس، وبعد أن هدأت ثورة الشغف العربي "المرضي" بالدراما التركية عادت لتتأجج من جديد، على خلفيّة المسلسل التركي الذي أثار حفيظة الاسرائيليين وزاد من حدة توتر العلاقات بين أنقرة وتل أبيب..
مسلسل "انفصال" قدّم صورة حقيقية عن تصرفات الاحتلال الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة وصوّر في أحد مشاهده جنديا إسرائيليا يغتال برصاصه براءة أطفال فلسطين ويصوّب نحوهم فوهة بندقيته ليحصد أرواحهم دون رحمة.. مثل هذه المشاهد التي جاءت في المسلسل التركي قد تكون قدّمت عشرات المرات في الأعمال العربية، مسلسلات وأفلاما وحتى كليبات، لكنّها لم تصل إلى حد إثارة الدنيا دون إقعادها، وتحويل الأمر إلى أزمة دبلوماسية كانت "مانشيت" عديد الصحف وخبرا رئيسيا تداولته لأيام وكالات الأنباء العربية والعالمية.. ربّما يعود ذلك إلى الخلفيات السياسية والعلاقة بين اسرائيل وتركيا التي أخرجت المسلسل من إطاره، كعمل درامي، إلى فتيل أجّج غيرة العرب من تركيا التي هزمتهم حتى في فلسطين، وأثار في قلوبهم حسرة على مثل هذا القلق الذي تثيره بلاد الأناضول في الحكومة الاسرائيلية لأنه تصرّف يرون أنهم أولى به ويتمنون لو يصدر عن حكوماتهم وتقف مثل الموقف التركي الذي أكّد للعرب أن الصمت أحيانا ليس من ذهب.
الاحتجاج الاسرائيلي على مسلسل "انفصال" التركي يذّكرنا بجدلية التي تجمع بين متضادين يتقاربان بقدر ما يتباعدان وهما الفن والسياسة.. حيث يتلاحم هذان "العدوان" في لعبة التأثير على الناس، ونكاد نجزم هنا أن لتأثّر العرب بالموقف التركي من قضية العدوان على غزة، ثم موقف أردوغان في مؤتمر دافوس، والآن قضية مسلسل "انفصال" دورا كبيرا في الانجذاب الحماسي العاطفي العربي إلى مهند وإخوانه الأتراك. فالفنون لم تخل من البعد السياسي في كثير من أطروحاتها، بل كانت أداة فعّالة في ايصال فكرة سياسية ما أو التعبير عنها بشكل فني راق.. وما الكمّ الهائل من المسلسلات التي تحفل بها الفضائيات العربية إلا دليل على مدى تطوّر هذا القطاع في الوطن العربي، خاصة مع وجود فضائيات مختصة في عرض المسلسلات تحقق نسبة مشاهدة عالية.. كذلك الميزانيات التي نسمع عنها والمخصصة للانتاج الدرامي تؤكد أن صنّاع الترفيه والدراما في العالم العربي يحتكمون إلى الأموال الكافية لانتاج مسلسل ذي قيمة لا يقل عن أي عمل تركي أو أعجمي.. وكثيرة هي السيناريوهات التي بإمكانها ملء فضائيات الدراما والافلام والمنوعات وحتى الأغاني بأعمال لا حصر لها تغوص في واقع الأمة العربية وتطرح بعضا من مشاكلها الحساسة بدءا من القضية الفلسطينية، مرورا بالأزمة العراقية وقضية الجولان السوري والصراع الاسرائيلي اللبناني، وصولا إلى أزمة دارفور السودانية التي أصبح المواطن الأمريكي يعرف عنها أكثر مما يعرفه عنها المواطن العربي بفضل اهتمام عديد النجوم بهذه القضية على غرار نجم هولييود جورج كلوني..
لم تدّخر الدول القويّة جهدا في تحويل الفنون، السمعية البصرية بالخصوص، إلى سلاح فعّال يخدم به مصالحه وسياسته، فلماذا لا تزال تؤرقنا مسألة هل الفن حرام أم حلال؟.. الفن رسالة إنسانية وأخلاقية، و"سلاح شفاف" يخترق الحواجز ويكسر الصمت دون أن يردعه أي رادع مهما كانت قوته ونفوذه، لذلك لعب الفن على وتر السياسة أزمانا طويلة، وكان الفنان في نظر السياسي "أداة" مهمة، وفعالة، أكثر نجاعة من مئات الأسلحة وأبلغ من الخطب الفصيحة..
وما من سلاح أنجع من سلاح الفن والسينما لتصحيح إساءات من قبيل صورة "الإرهابي" أو "الهمجي" التي يلجأ إليها صنّاع الدراما الغربية كلّما أرادوا تصوير شخصية عربية.. فمثلما هناك عرب "مجرمون" ومهاجرون مثيرون للشغب تحفل دول العالم، من أوروبا إلى أمريكا، بمدعين وعلماء ومخترعين عرب لهم دور كبير وحضور قوي في أهم المراكز العلمية والتكنولوجية الحساسة بدءا من وكالة الفضاء الدولية "ناسا" وصولا إلى الجامعات الغربية والفن والرياضة، خاصة وأن الدراما العربية، سينما ومسلسلات، بدأت تشهد حضورا مميزا في المحافل العالمية، وهي بالطبع فرص هامة لإبراز الجوانب الإيجابية للمسلم والعربي، وتصحيح الصورة المضللّة التي رسمتها السينما الغربية من قبل واستغلّها الغرب في إعلامه.
اليوم، "غزوات" العرب الإبداعية و"فتوحاتهم" محدودة جدا فيما الساحة مفتوحة أمام كلّ هابط من "الابداع" الفني.. وحيث لا فن حقيقي، لا حياة ولا تاريخ ولا كرامة!.