كلام لا علاقة له بالأمور السياسية….(7) بقلم العميد المتقاعد برهان إبراهيم كريم
يظن البعض أنني مسحور بما رأيته في دول أوروبا من عادات وأخلاق وقيم تسر القلب والعقل والنفس. وأنني أتنكر لأصالة عاداتنا وقيمنا وأخلاقنا العربية وأغمطهم حقوقهم,وظنهم ربما خطأ وإثم وفي غير محله.
فمن واجب كل منا أن يقف في وطنه أو في أي بلاد يزوره على المناطق والضفاف والتلال التي تسر روحه وعقله وفؤاده وناظريه ,لا أن يهمل هذه الأمور ويحصر وقوفه على مزابل وطنه أو مزابل البلد الذي يزوره.
فقد تجد قيم وعادات وتقاليد اندثرت رغم أنها كانت السائدة فيما مضى, لتحط مكانها أخرى لم تكن من قبل معروفة.أو تجد قيماً وعادات وأخلاق مازالت موضع فخر واعتزاز من كافة شعوب الأرض. وعادات وقيم وتقاليد قذف شعب بالبعض منها إلى المزابل حين وجد أن ضرها أكثر من نفعها وعللها مزمنة وفالج لا تعالج.
كم هو محزن حين ترى من يعميه حقده على حاكم أو حزب في بعض بلادنا العربية والإسلامية فلا يرى من الانجازات الحضارية الكبيرة التي تحققت في ظلهما أي شيءٍ منها.بينما يُبصر بوضوح بعض الفساد مهما صَغُر. وكم هو مضحك حين يدفع الحقد بأحدنا ليحمل وزر وأخطاء فرد تقاعس أو قصر أو أخطأ في عمله وواجباته لآخر أو للنظام والحكومة.أو يذود أحدنا للدفاع عن ما أرتكبه فرد أو جماعة من خطأ كي نحميهما من التبعات والمسؤولية .أو يجهد آخر لغاية بنفسه أو لكسب ثقة أسياده لخلط الأمور وتزييف الصورة وتشويه الحقائق.
في أوروبا مثلاً تشعر بالفخر والاعتزاز حين تراجع دائرة حكومية أو خاصة لإنجاز أية معاملة.فأمام الدائرة ستجد مواقف مأجورة بالساعة والدقيقة للعربات ولغيرها من وسائط النقل.وحين تدلف المبنى وتتقدم إلى مكتب الاستعلامات سيرشدونك بالتمام والكمال للموظف أو المكتب الذي عليه معالجة موضوعك. وحين تراجع هؤلاء المسؤولين ستجد حسن الاستقبال,وحسن الاستماع لطلبك وللكل ما تقوله, وبكل رحابة صدر ووجه بشوش سيحلون مشكلتك ,أو يطلبون لأنفسهم بعض الوقت للمراجعة والتدقيق والدراسة واتخاذ القرار بشأنه. وحينها سيطلبون منك بكل أدب ولباقة أن تذهب لتستريح على أحد المقاعد المخصصة في الصالون أو الباحة ريثما يحين دورك,أو ينهون حل مشكلة من سبقك,وأنهم سوف ينادون عليك من خلال الإذاعة.وحين يحل دورك سترى كم كانوا ومازالوا مهتمين بأمرك, حين يتقدمون بالاعتذار عن كل ما أرتكب من إهمال أو تقصير بحقك. وربما قد يذكرونك بما نسيت من معاملاتك السابقة التي لم تتابع من قبلك, ولكنهم تابعوها وأنجزوها وهي الآن جاهزة وأنهم سيسلمونها لك مع كامل وثائقها ومرفقاتها وحتى أنهم يبررون لك تقصيرك. ولن تجد موظف أو عامل يضيع الوقت باحتساء فنجان شاي أو قهوة ويدخن السيجارة باليد الأخرى. أو يغرق في لهو وثرثرة ونقاش بيزنطي وقصص ألف ليلة وليلة عن معاناته اليومية وعن ما يعشق ويحب ويهوى ويكره في حياته مع زميل أو زميلة. فالعمل بنظرهم أهم وأسمى, وحل مشاكل الناس بنظر كل واحد منهم له الأولوية وهو الأفضل والأحسن والأولى.وتشعر بأن الواحد منهم قد ترك بيته ليعمل لا ليضيع الوقت والعمر سدى. وأن هم الواحد مهم أن يرضي الله وضميره ووطنه لا لينال مغنماً أو منفعة أو جائزة أو مرحى.ولن تجد من يقول لك أن مشكلتك مستعصية, أو لا حل لها,أو أن القانون في بلده لم يتضمن حلاً لمعالجة مشكلتك فيندب معك حظك ومصابك. فالقانون هو القانون ولديه لكل مشكلة الحل والعلاج والدواء والبلسم. وحتى لو أخطأت بتصرفك أو رفعت صوتك من شدة هياجك وغضبك على موظف أو موظفة فلن تقابل سوى بتصرف هادئ ودسم باللباقة وحسن التصرف والأدب,لأنهم يعلمان أن صاحب الحاجة أرعن. وأنك ربما منزعج لأنهم عطلوا عملك حيث تعمل بسبب مراجعتك لمتابعة قضية ضرورية تهمك. ولن تجد موظفين وعمال ذكور كانوا أم إناث يتصرفون أثناء دوامهم في الدائرة أو المعمل تصرفات غريبة وعجيبة,أو تجد أحدهم يظن أو يعتبر:
• أن مقر عمله في دوائر الدولة أو المؤسسات الخاصة ملكاً شخصياً له وحده, وهو صاحب الحق والقرار في تحديد من يستقبل أو يستضيف من قبله أو من قبل من هم تحت أمرته.أو من هو صاحب الحق بالمراجعة لإنجاز معاملته أو الاستماع لشكواه أو مطلبه وإيصاله لحقه.فالجميع لديهم سواسية.
• أو أنه السيد والآمر الناهي, وأن جماهير وطنه أو من يراجعونه ليسوا سوى عبيداً تحت تصرفه.
• أو أن يتجاهلك أو يتجاهل طلبك وشكواك ,أو أن يوحي إليك على أنه فطحل مكانه وحكيم زمانه.
• أو أن يسر ويتلذذ بتعذيب من يراجعه أو أن يهدر حقه ووقته وحتى إخراجه عن أطواره.
• أو أن يحكم إغلاق أبوابه بألف قفل ومفتاح وسكرتارية ورؤساء مكاتب كي لا يدلفهم مراجع.
• أو أن يعتبر نفسه فوق القانون,أو أنه القانون بشخصيته وهندامه وقيافته وشحمه ولحمه ومهابته.
• أو أن يعتبر أن دوامه ليس سوى توقيع أوراق ما قرأ منها كلمة ولا وقعت عينه على حرف منها.ثم الانصراف لإتمام أعماله الشخصية وتأمين متطلبات وطلبات أسرته وخلانه وزوجته وأحبابه وأقربائه.
• أو أن يجهد لتحصيل الأموال من المواطنين بحق وحتى بدون وجهة حق لا لكي تغنى وتكتنز بالمال إدارته أو مؤسسته. وإنما لينال منها حصته ونصيبه وفق النسبة التي حددها القانون له مما يحصله.
• أو أن يهدر حقوق دولته أو دائرته أو مؤسسته ومواطنيه طالما وجد من يملئ له بالمال جيوبه.
• أو أن يظن أن دائرته أو مؤسسته ستشقى من بعده حيث أنه طراز فريد ليس له من مثيل.
• أو أن يهدر وقت دوامه بالتزلف لرؤسائه وأولي الأمر كي لا ينقل من مكانه ويفتضح فساده.
• أو أن يحول مكتبه إلى مقهى لشرب الشاي والقهوة وتدخين السجائر,والهذر والثرثرة والتسلية وحل الكلمات المتقاطعة,وسماع الأغاني والاتصال هاتفيا مع زملائه وزوجته كي يُقضي وقت دوامه.
• أو أن يحضر لمكتبه ومقر عمله وهو غير صاح بعد أن أطال السهر في ليلته, فيطلب ممن يراجعه أن يعود ليراجعه في يوم آخر ,أو يحدد له موعداً جديداً قد يطول أو يقصر حسب رغبته ومشيئته.
• أو أن تجد موظفة أو عاملة خلال دوامها تهتم بإصلاح ما تعطل من زينتها وتبرجها وماكياجها وأكسسوارتها وتسريحة شعرها,أو أن تنهمك بالثرثرة مع زملائها أو زميلاتها في مشاكل وأمور خاصة.
• أو أن تجد من يفاوضك على إعفاءك من الغرامة أو الضريبة المتوجب عليك دفعها بشرط أن تضع له في جيبه ثلثها أو خمسها أو ما إلى ذلك.فمثل هذا العمل جريمة وخيانة لله والوطن والجماهير لا تغتفر. أو قد ينظر إليه كعمل تآمري وتخريبي يلحق الضرر بالوطن وأمنه وشعبه,وانتهاك فاضح للقوانين المرعية في وطنه.وأنه سيبادر للشجار معك ورمي النقود بوجهك لو تركته ولم تنتظر أن يرد لك باقي المبلغ ولو بالقروش المتبقية لك من فرق ما دفعته وما هو متوجب عليك دفعه, أو قلت له بأن الباقي إنما هو مكافأة أو بخشيش له منك .فحينها سيعتبر الموظف (رجلاً كان أم أنثى) بأنك طعنته أو في شرفه ووطنيته و ضميره وأسرته وتربيته وأعز ما يملك , وأنك أيضاً أسأت لدور العلم التي تعلم فيها وحتى لأصحاب الفضل عليه ولأستاذته ومدرسيه ومعلميه وحتى لوطنه ونسبه وأمه وأبيه.
• أو أن تجد من ينظر إلى من يراجعه أو من لديه مشكل لديه على أنه ليس سوى متسول يتسول لحل مشكلته في دائرته.وأن هذا يعطيه الحق في نهره أو طرده أو إهماله.فمثل هذا التصرف جريمة كبيرة.
• أو أن يعتبر نفسه أنه بات صاحب فضل عليك وأن له سلطان عليك بعد أن أنهى إحدى معاملتك أو حل مشكلتك. بل يعتبر أنه إنما نفذ ما هو مطلوب منه وأدى من خلاله بعضاً من واجباته.
• أو أن يهمل شكواك أو يهدر حقك محملاً المسؤولية عن ذلك لرئيسه بعد أن قدم له معلومات كاذبة وغير صحيحة من خلال مذكرة عرض زيلت بقرار خاطئ من رئيسه كي ينحى عليه باللائمة.
في أوروبا لو سأل رئيس أو مدير دائرة موظف أو موظفة أو عامل وعاملة ممن هم تحت أمرته عما أنجزه كل منهم في يومه, لوجد أن لدى كل منهم لائحة وقائمة جاهزة يستحق عليها الشكر والتقدير والاحترام والمكافأة, لأنه لم يضيع من وقت دوامه أية دقيقة سدى. ولو فكر رئيسه بالتحقق وتدقيق أية لائحة أو قائمة أو مما سرده من أقوال من خلال الاتصال مع المراجعين الواردة أسمائهم فيها لتبين له صحة وصدق هذه اللائحة. أما في بعض بلادنا العربية والإسلامية فسيصعق أو سيصدم من يفكر بأن يسأل أو يدقق (إن وجد فيها مثل هذا النموذج ممن يدقق ما أنجزه مرؤوسيه خلال يوم دوامهم أو أنجزته إدارته في يومها) حين يكتشف أن ليس لدى بعض مرؤوسيه أية لائحة أو قائمة بمن راجعوهم أو بمن أتمموا لهم إنجاز أعمالهم وحل مشاكلهم وشكاويهم. ولو فكر بالاتصال ببعض المواطنين ممن راجعوا مرؤوسيه,أو دائرته لوجد كم هم ساخطون وغاضبون مما لاقوه من سؤ معاملة وإهمال وتجاهل وعدم احترام لهم من بعض موظفي وعناصر إدارته. ولسمع تذمرهم من حجم المعاناة والصعوبات التي تعترضهم في دائرته.وحينها سيتبين له أن بعض من هم تحت أمرته ليسوا سوى خبراء في التهرب من دوامهم,أو هدرهم لأوقاتهم, وأوقات غيرهم,وأوقات مراجعيهم سدى.وأن كثيراً من مظاهر الفساد مستشرية في إدارته.وأن عليه محاسبة البعض منهم بدلاً من مكافأتهم مادياً ومعنوياً. ولسارع إلى طلب تعديل القوانين التي تمنح نسبة من تحصيل الرسوم والضرائب والفواتير للجباة ورؤسائهم لعدم أحقيتهم بعد أن بات المواطن هو المسؤول عن دفعها في المراكز بدلا من الجباة الذين كانوا في مضى يطرقون الأبواب ويقطعون المسافات الشاسعة ويدفعون أجور النقل من أجل تحصيل الفواتير والضرائب والرسوم المستحقة. فميزانية الدولة هي الأحق بهذه النسب من الجباة ورؤسائهم منذ أكثر من عقدين.
أتمنى على القراء أن يثروا هذا الموضوع بمقترحاتهم وتعليقاتهم لما له من أهمية في محاربة ظواهر الفساد والإفساد.