كلمة السيد الدكتور بشار الأسد في افتتاح الندوة السورية ـ اللبنانية للمعلوماتية
ألقى السيد الدكتور بشار الأسد رئيس الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية كلمة بتاريخ 26/4/2000 في افتتاح الندوة السورية ـ اللبنانية للمعلوماتية قال فيها ..
أرحب بكم أجمل الترحيب وأخص بذلك إخوتنا وزملاءنا من القطر اللبنانـي الشقيـق الذيـن سـاهموا بشـكل فاعـل في الإعداد لهذا اللقاء العلمي والأخـوي ، كما أرحب بضيوف هـذه الندوة فأهلاً وسهلاً بكم في بلدكم سورية ..
عندما كنت بصدد كتابة هذه السطور تساءلت بيني وبين نفسي عن طبيعة المواضيع التي يمكن أن أتحدث عنها في افتتاح ندوتنا هذه ، هل أتكلم عن العلاقات التاريخية السـورية ـ اللبنانية وماضيها البعيد والقريب ، سيرورتها ، ظروف تطورها ، حاضرها وآفاقها المستقبلية ، ومما لا شك فيه أن معظمنا قد قرأ الكثير مما كتبه أصحاب الاختصاص حول ذلك ، أم أتكلم عن التكنولوجيا وتطورها وتأثيراتها المتعددة والكبيرة في كافة مناحي الحياة وكيفية التعامل معها ومع نتائجها السلبية والإيجابية وأنتم أهل هذا المجال محاولاً دائماً وقدر الإمكان تجنب الحديث البروتوكولي أو الحديث لمجرد الواجب أو ما أسميه الكلام لأجل الكلام حريصاً بالمقدار نفسه على أن يلي الكلام أي كلام العمل وإذا لم يكـن كذلك فليكن حافزاً لعمل إيجابي فاعل ما أو لطرح فكرة أو مجموعة أفكار للنقاش بهدف الوصول لنتيجة محددة تساهم في إنجاز معين ..
ووجدت أمامي خيارين أو أسلوبين لطرح الأفكار إما بالسؤال أو بالجواب فبالطريقة الثانية أي الجواب تتحدد الفكرة بالمعنى المباشر لصاحب الطرح وببعض المعاني غير المباشرة التي يريد إيصالها أو التي يستنتجها المتلقي ، أما بالطريقة الأولى فيترك السؤال المجال للمطروح عليهم أن يضعوا عدداً كبيراً من الأجوبة بما تحمله من معان ظاهرة فوق الأسطر أو مختبئة بينها وبالتالي تزداد الاحتمالات لنقاش موضوعي ويكون هناك فسحة أكبر للحوار والرأي الآخر وقد اخترت الطريقة المختلطة ..
عندما استعدت عنوان هذه الندوة وجدته يحمل ثلاثة مضامين أساسية : المضمون الأول سوري ـ لبناني ، المضمون الثاني المعلوماتية ، والمضمون الثالث هو الأول أي الندوة الأولى وحاولت أن أربط أو أن أجد العلاقة بين المضمونين الأول والثاني فالسوري ـ اللبناني هو تاريخ ، بينما المعلوماتية هي تقنيـة ، وهنـا يوجـد افتراق ، السـوري ـ اللبنانـي هـو تاريخ قديم وحاضـر ومسـتقبل ، أما المعلوماتية فهي ماض قريب وحاضر ومسـتقبل ، وهنا يوجد تقاطع ، ولم أجد التطابق بين المضمونين إلا عندما وجدت العنصر الوحيد الذي يربـط بين كل ما ذكرته بشكل كامل وهو الإنسان السوري ـ اللبناني
هذه العلاقة التاريخية هي علاقة عيش مشترك ومصالح مشتركة نشأت عن ملاحظة رافقتها تجربة غنية وطويلة أدت لاستنتاج تحول إلى معلومة دخلت إلى العقل الذي بدوره جعلها قناعة راسخة عبر الأجيال فإذا هي علاقة بنيت على المعلومة والتي هي معلومة صحيحة ودقيقة من دون أدنى شك ، كذلك المعلوماتية وتقنياتها المختلفة التي تتعامل مع وتعتمد على المعلومات المخزنة فيها ، ومن هنا أتت التسمية أصلاً ..
فإذاً نحن أمام منظومتين نختصرهما بمعلومتين : معلومة تاريخية ومعلومة تقنية والفرق بينهما هو أسلوب التداول ، فالأولى ، أي التاريخية ، تخضع إلى حد كبير لمواصفات الإنسان كعدم الدقة والعاطفة والغريزة وغيرها ، وبالتالي فإن استقراء المستقبل من خلالها أقل دقة ووضوحاً وفي بعض الأحيان أقل مصداقية ، وبعكـس المعلومة الثانية ، أي التقنية ، التي تتصف بالدقة المتناهية ، وإذا وجد الخطأ أو تم توقع الارتياب فيمكن قياسه وحسابه بشكل مسبق وبدقة ..
وبمعنى آخـر : الأولى هي معلومة أمْيَل إلى العاطفة ، والثانية أمْيَل إلى العقل ، وأحدهما لا يكتمل من دون الآخر ، فالعلاقات التاريخية توفر طاقات هائلة من المحبة بين الشعوب ، ولكن لا يكفي أن نحب ، بل المهم أن نعرف لماذا نحب ، والأهم من هذا وذاك أن نتعلم كيف نحب ، وعندما نتساءل كيف ولماذا يكون الجواب حصراً بالأرقام أي بالواقع ، فمحبة شيء ما تعني إلى حد كبير البحث عن مصلحته ، والعلاقات التاريخية هي علاقات أوطان ومجتمعات ومصالحها تبدأ بالعام وتصل حتى أصغر فرد فيها ، والمعلوماتية دخلت في تفاصيل حياة المجتمعات والأفراد الذين تطورت مصالحهم طرداً مع تطور هذا الحقل ، وبالتالي فإن تحقيق هذه المحبة ـ المصلحة يفرض على المجتمع والفرد تحقيق المعلوماتية على الواقع ..
وهذا يعني أنه يمكن وإلى حد كبير أن تصبح المعلوماتية عنصراً أو قناة محبة رقمية بين وطنين تضـاف إلى العواطف الموجودة بالأساس ، وبما أن الفرد هو الوحدة الأصغر في المجتمع فلا بد من البدء انطلاقاً منها وذلك بتحديد مدى محبة كل فرد للآخر ومن ثم كل فرد لمجتمعه ، أي وطنه ، وعن كيفية تحويل هذه العواطف الوطنية إلى عواطف معلوماتية وطنية ، وبكل تأكيد ليس المقصود أن نتحول إلى آلات أو نبني علاقاتنا الاجتماعية من خلال الحواسيب أو الشبكات وإنما المراد هنا هو أن نغذي محبة الوطن بالوعي الوطني ، فالأولى عاطفة والثانية إنجاز، والإنجاز يبنى على أرقام ، والأرقام تعني الدقة ، والدقة بحاجة إلى عمل ، والرقم والدقة والعمل هـي عناصر معلوماتية ، وبالتالي لكي نحول أوطاننا إلى أوطان معلوماتية لا بد من جعلها ورشة عمل لا تهدأ وأن تكون مبنية على أرقام تشير بدقة إلى الواقع الذي تمثله أكثر مما ترمز هذه الأرقام لنفسها بشكل مجرد ، فعلى سبيل المثال أربعة أقلام أقل قيمة من أربعة أطنان ذهب ، وأربعة أطنان ذهب أقل أهمية بكثير من أربعة أفكار قيمة ، وكلها تذوب في الرقم ( 1 ) عندما يمثل هذا الرقم الوطن ، كما أن أحدنا لا يستطيع أن يصل إلى الرقم ( 22 ) وهو مجموع الدول العربية إذا لم يمر بالرقم واحد ، أي أن محبة الوطن الصغير هي من محبة الوطن الكبير والعكس صحيح ، وبالتالي فالعمل لمصلحتهـا مجتمعـة أم منفردة هي عملية ذات اتجاهين وفوائدها متبادلة ، وهذا يتطلب بشكل كبير أن يتعامل الإنسان مع وطنه كرقم صحيح واحد لأن الوطن عندما ينظر إليه كمجموعة أرقام مختلفة فهذا يعني أنه مهدد بالانحلال والضياع ، أما المؤسسات والأفراد فهي تشكل أجزاء هذا الرقم ، وبالتالي يمكن أن تتشكل من كسور وأصفار مع فواصل ، وكل عنصر من عناصر المجتمع والدولة منفرداً يمثل الوطن لكن لا ينظر إليها إلا ككتلة واحدة متكاملة ولكي تكون كذلك لا بد من وجود كتلة متجانسة من الأفكار والمفاهيم قادرة على التعامل مع كم هائل من المعلومات الدقيقـة وتقود جميع العناصر من خلال عقل بشري متطور ، وهذا مطابق تماماً لأسلوب عمل الحاسوب أي المعلومات ونظام التشغيل الذي يمثل المفاهيم والمعالج الذي يمثل الدماغ
من هنا نصل إلى سـؤال هام .. أي معلومة نريد وماذا نؤتمت من كل ما سبق ؟ يبدو أن الحاجة ملحة للتركيز على أتمتة العقل وبالتالي المجتمع بعناصره الصغيرة والكبيرة إذ كيف يمكن لإنسان يمتلك مفاهيم جامدة أن يتعامل مع تقنية سريعة التطور بمكوناتها الصلبة وبرمجياتها ، وكيف يمكن أن يتحقق شيء إيجابي من تعامل إنسان ترسخت في ذهنه مبادئ الجهل مع قمة العلم ، وما هي النتائج المتوقعة من استخدام شخص لا يمتلك خوارزمية تفكير منطقية موضوعية تحليلية لجهاز يجسد قمة التسلسل المنطقي ..
أيضاً الحاجة ملحة للتأكيد على دور المؤسسات وذلك بترسيخ الفكر المؤسساتي الذي يبنى بدوره على فكرة أن المؤسسة للكل وهذا الكل يعني كل واحد مع الآخرين ، فإذا كان شخصاً ما لا يقبل الآخر ولا لرأي الآخر فكيف يقبل بأن يشاركه الحاسوب اتخاذ قرار ما ..
المؤسسة تعني الانضباط ، فكيف نردم الهوة الموجودة بين مجتمعاتنا التي تميل للتسيب وعدم احترام الوقت وآلة يقاس الزمن فيها بأجزاء من الثانية ، وما هي إمكانية الاستفادة من تقنيات حديثة تنجز مئات الألوف أو ملايين العمليات في الثانية الواحدة إذا أديرت من قبل أفراد لا يقدرون هدر الساعات بل الأيام ..
ومما سبق من أسئلة نستنتج سؤالاً محورياً آخر : هل يمكن أن نطور معلوماتياً من دون أن نطور اجتماعيـاً وعلى مستوى العلاقات بين الدول والمجتمعات ؟ فالسؤال المطروح هو : ما مدى انعكاس التقدم أو التأخـر المعلوماتي والاجتماعي على تلك العلاقات ؟ أي بمعنى أوضح : هل من الممكن لمجتمعين متأخرين أن يبنيا علاقة متقدمة أو بالعكس ؟ مع الأخذ بالاعتبار أن التقـدم والتأخـر همـا مفهومان نسبيان يرتبطـان بالعصـر وبالموقع الجغرافي ..
فإذاً التعامل بالمعلوماتية هو تعامل مع المجتمع ، والمجتمع هو التاريخ ، بالتالي فالمعلوماتية والعلاقات التاريخية هما مضمونان مترابطان ، ومتانة الارتباط تتناسب طرداً مع تطور كل منهما ، وبالتالي فإن هذه الندوة هي ليست مجرد لقاء ذي طابع علمي بحت نستخلص منه النتائج لنضيفها إلى أرشيفنا العلمي بل هي مساهمة مباشرة في بناء علاقة وجدت مع وجودنا واستمرت باستمرارنا وتطورت وستتابع تطورها بتقدمنا .
تعلمنا في المدرسة أن نشوء الأمم يبنى على عناصر ، فهل تقرأ الأجيال المستقبلية أن ما جمع العرب بشكل عام وسورية ولبنان بشكل خاص هو التاريخ والجغرافيـة والمصالـح المشتركة واللغة والمياه والثقافة والعادات .. والمعلوماتية ؟! وهل تكون البداية من هذه الندوة الأولى ؟!.
متمنياً لكم التوفيق ولندوتكم النجاح .