قبل فترة بسيطة رحل عن عالمنا الفنان والمخرج اللبناني سهيل العتيق؛ واحد من آخر حبات عنقود فناني أواسط القرن الماضي في لبنان تمثيلاً وإخراجاً، وفنّاً تشكيليّاً في الوقت عينه.
وفي لقاء معه قبل رحيله، تحدث العتيق عن سيرته مع الفن، وما واجهه من صعوبات، كاشفاً أسراراً في الأعمال الفنيّة، والتمثيل، لم تعد متوافرة في العصر الراهن.
عتيق من مواليد 1930. بدأ حياة ريفية بسيطة، ثم انتقل إلى المدينة مثل العديد من أبناء جيله. خاض العديد من التجارب الفنية. بدأ دراسته صغيراً في مدرسة بلدته بينو العكاريّة، وفي العاشرة انتقل إلى إحدى مدارس مدينة طرابلس حيث كانت غالبية سكان القرى المتوسطيّ الحال، والميسورين، يقصدونها للدراسة.
ظهرت موهبته الفنيّة في المدرسة عندما برع في رسم الخرائط الجغرافية، ويقول عن ذلك: “كان أستاذي يشرح الدرس عن الخارطة التي كنت قد رسمتها، وأذكر أنني كنت أحدّق أطراف حدود البلدان بطريقة جذّابة”.
هكذا بدأ ميله الفني، ثمّ تعدّدت اهتماماته الفنيّة، بارتياده السينما التي زخرت المدينة بالعشرات من دورها، وكان يرتادها باستمرار: “كنت أميل إلى أفلام الأكشن”، كما قال، “وحضرت الكثير من الأفلام المصريّة في سينما “دنيا” المتخصصة بالأفلام العربية في حينه”.
بنتيجة ذلك، نما عند عتيق حب للسينما، مشاهدةً وصناعةً، وسنة 1947، التحق بأحد مخرجي المسرح الطرابلسيين، وعمل معه بالتمثيل.
بعد التخرج من طرابلس، التحق بالجامعة الأميركية في بيروت لدراسة الطب 1948، وأتاحت إقامته في بيروت التعرف إلى العديد من الممثلين، لكن ظروفاً عائلية أجبرته على الهجرة إلى أفريقيا مع والدته، وظل مهتّماً بالفن، شغوفاً به.
لم يتحمل عتيق عناء أفريقيا، ولا أجواءها القاتمة، كما قال، فعاد إلى لبنان، وأجرى اتصالات مع أستاذ فن مصري هو عبد الشافي العشاشي، وذهب إلى مصر، ودرس وتدرّب على يده، ونال شهادة تقدير منه بالتمثيل، وكان ذلك سنة 1952.
يوم عاد إلى لبنان من أفريقيا، كان قد جمع مبلغا مالياً يؤهله لعمل فني خاص: “عرضت فكرة فيلم سينمائي على عدد من الأصدقاء، ولم يك التجاوب كبيراً، فتوليت ذلك من حسابي الشخصي، ومثّلت فيه، وهو “أيام من عمري”، وكان ذلك أواسط الخمسينات، وتعاونت مع صديق في الأشرفية كان عنده استوديو الأرز، وبحثنا بمن يضع لنا السيناريو، واستقر الرأي على الكاتب الصحفي الشهير جورج إبراهيم الخوري الكاتب في جريدة “الأنوار”، وهكذا كان”.
وضع خوري السيناريو، وتم تصوير الفيلم بمشاركة ممثلة ماهرة، وشهيرة في زمنها إسمها نوال فريد، وقد حظي الفيلم بنجاح كبير، و”كان الناس يحضرونه عدة مرات”، بحسب عتيق.
وتحدث عن تواصله مع الضابط العسكري عزيز الأحدب الذي قدم له فرقة عسكريّة بالسلاح الحيّ لتصوير مشاهد من الفيلم، ويقول: “أعطاني سيّارة مع عشرة شباب بسلاحهم الحيّ، وكان الأحدب شديد التفهم للموقف”.
ويذكر إنه “بعد الفيلم الأول، كانت عندي مشاريع لخمسة أفلام أخرى، لكن أحد مروجيّ الأفلام الذي كان يتولى ترويج فيلمي الأول، قام بسرقتي، وأخذ أموالي، ولم أعد قادراً على عمل أي شيء”.
وبسبب ما تعرض له من خسارة، لم يكُ أمام عتيق إلا السفر قاصداً فنزويلا. يقول: “هناك جرى عرض الفيلم، وشهد إقبالا كبيرا، وردّ لي خسارتي”.
وتابع: “في هذه الأثناء، كنت أمارس الفن التشكيلي، وتابعته، وهناك من وجّهني لدراسته في جامعة سيمون بوليفار، ثم قصدت مدريد، ودرست الفن لسنة ونصف السنة”.
ويذكر أنه التقى بالفنان سلفادور دالي الذي كان يزور الجامعة، و”أعطاني ملاحظات على عملي، وأُعْجِب به كثيراً، كما تعرّفت على العديد من الفنانين الإسبان”، لافتا أن “دالي شجّعني على متابعة الرسم، من دون أي عمل آخر”.
قبل ذلك، وضع عتيق العديد من اللوحات في فنزويلا، وأقام خمسة معارض خاصة، وشارك في العديد من المعارض الأخرى، وذكر إن “أكثر ما كنت أركّز عليه هو البورتريه”.
عاد عتيق إلى لبنان، وتوجّه إلى العمل في الإذاعة اللبنانية، كمخرج، ويقول: “كان طموحي أن أقدم في الفن أشياء كبيرة. التحقت بتلفزيون لبنان، وطرحت على محطتيه، في القنال 2 (الحازمية) والقنال 7 (تلة الخياط في بيروت)، القيام بمسلسل “أنا التاريخ”.
بدأ المسلسل، وقدّم فيه ست حلقات منها: “بطل أثينا”، و”عمر بن الخطاب”، و”الإسكندر الكبير” ذاكراً أن “كلّ حلقة كانت بمثابة فيلم سينمائي، حيث كانت تستمر ما بين ساعة ونصف الساعة، أو الساعتين، وكنّا نتدرب عليها، ثم يجري تصويرها، وعرضها مباشرة على التلفزيون، أي من دون تصوير مسبق أو مونتاج”.
في “القنال 2” اشتغل عتيق مع أنطوان ريمي، وفي “القنال 7” مع المخرج غاري غارابتيان. في ذلك الحين، كانت صناعة المسلسلات جامعةً بين المسرح والسينما، وكان التدريب على الحلقات يجري أولا، ثم يجري العرض، ويتم التصوير، وينقل إلى الشاشة بصورة مباشرة. عتيق علّق على ذلك بقوله: “هكذا عمل لمدة ساعتين ليس أقل أهميّة من صناعة فيلم سينمائي، وإذا كان الفيلم يعرض بصورة غير مباشرة، لكن الحلقة تعرض بصورة مباشرة على الشاشة كالمسرح، وما يعنيه ذلك من صعوبات”.
خلال تمثيل وعرض إحدى الحلقات، زار المخرج الأميركي أدوارد لويس بيروت وعرّج على تلفزيون لبنان، ولما شاهد التمثيل وبعض الحلقات التي كان عتيق يُعِدّها، طرح على عتيق التعاون في فيلم كان يجري التحضير له في أميركا، على أن يتم التمثيل في أفغانستان.
تناول عتيق تلك التجربة: “طرح لويس عليّ التعاون، وذهبت إلى أميركا على نفقته، والتقيت بأحد المعنيين بالفيلم وهو جان فرانكلين، والفيلم كان إسمه “الحصان”، وأنا أجيد ركوب الخيل بمهارة، وهذا ما لاحظه لويس. وفي أميركا، قابلت المعنيين، وبدأت التحضير للتمثيل في الفيلم، وأجريت العديد من التدريبات، وعدت إلى بيروت نزولاً عند رغبة العائلة بعد أن صوّرت عدداً من المشاهد للفيلم”.
في لبنان، انضم عتيق إلى نقابة ممثلي السينما والإذاعة والتلفزيون، وله معارف، وتجربة واسعة فنية، لكنه آثر الخروج من أجواء الفن الصاخب، إلى الفن الهادىء، فأقام في بلدته بصورة دائمة، قضى فيها أكثر وقته في الرسم الذي أحبه، واستمر فيه، وكان عندما يحب تغيير مزاجه الفني، يركب حصانه إلى البراري، إلى أن وافته المنيّة أواسط نيسان (إبريل) الماضي.