منذ لحظة الدخول إلى مسرح “أسعد فضة” ضمن المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق لمتابعة عرض طلاب قسم التمثيل في السنة الثالثة بعنوان “الحضيض” (نص مكسيم غوركي، دراماتورج زيد الظريف، إشراف المخرج عروة العربي)، نبدأ بتذوق المرارة، إذ إن السينوغرافيا المُبهِرة أحالتنا مباشرةً على جو المسرحية العام، حيث يوحي كل شيء بأننا في القاع: الجدران المتهالكة، مواسير الصرف الصحي في السقف الذي يدلف، فرشات الإسفنج من دون أغطية، الملاءات المتسخة، الكراسي المتهتكة، المدفأة المطفأة، الإضاءة الشحيحة، حتى الممثلون النائمون على أسرتهم أو الجالسون على كراسيهم وعلى الأرض، بملابسهم الرَّثة، وسحناتهم المتعبة، ونظرات عيونهم الزائغة، ليسوا سوى مخلوقات ذاك العالم السفلي، وهم غارقون بالأسى والتّعب، ومُتْرَعون بالتشرُّد والضياع، وفي أحسن الأحوال تائهون في “الحب القاتل”.
15 شخصية من طبقة “الحُفاة” الروسية قبل الثورة البلشفية يواربون عدمية حيواتهم بالاحتيال، ولا يملكون في مواجهتها سوى إطلاق العنان لحرية عواطفهم، والسخرية المُرَّة التي تجعل من القبو الذي يعيشون فيه مكاناً يضج بالحياة، رغم الموت المعشش في ثناياه، بحيث إنهم، لصوصاً وعشاقاً وعُمّالاً صِغاراً وخريجي سجون ومرضى ومُبَشِّرين، أنشأوا منظومتهم القيمية الخاصة التي تتبدل فيها ملامح الشرف والضمير والحقيقة والعدل والحب والحرية، وتصبح كلها أشبه بتلك الشخصيات بما تحمله من تناقضات بين الخير والشر، القبح والجمال، الحب والكراهية، الدنس والطهر، المعرفة والجهل.
يحتفي النص بالشخصية الإنسانية أساساً، بعدما شَحَنَها مكسيم غوركي بكل المقومات النفسية والاجتماعية اللازمة، ليأتي الحدث المسرحي كمُكمِّل لها ومُتولِّد منها ومن الظرف الموضوعي الذي تعيشه.
لهذا، شهدنا حوارات واقعية جداً بمنطق مُتَّسق، يؤديها الممثلون بتلقائية وعفوية تقترب من الطبيعية، ومشاعر غيرة وطمع وجشع وكره وحب، وحتى عراكات شرسة، لامستنا لحقيقيتها، وأظهرت لنا مقدار تَبنِّي الطلاب لشخصياتهم، شكلاً ومضموناً، وخصوصاً أنهم من صمموا أزياءهم، ووضعوا مساحيق التجميل لأنفسهم، وصمموا ديكور العرض، واختاروا موسيقاه.
أما الأهم، فهو الشعور الذي نقلوه إلى الجمهور بعدم الغربة عن تلك الشخصيات، رغم أسمائها الروسية، فالتأكيد على المشتركات الإنسانية أزاح المكان من بيئته الروسية الأصلية، جاعلاً منه مكاناً قابلاً للعيش بيننا، في زمن الحرب الحضيضي بامتياز، بفساده وقيمه التي أفرزها وصراعاته الآنية من أجل العيش فقط، وامتلاك القدرة على الجري وراء اللقمة لا أكثر.
على مدى ساعتين، شهدنا إيقاعاً سريعاً، وتصعيداً درامياً لا يكل، وميزانسين لا يهدأ، كل ذلك وفق رؤية أكاديمية وإبداعية من المشرف والمخرج عروة عربي الذي قال في تصريح خاص إلى “الميادين الثقافية“: “بعد الانتهاء من مهمتي الرئيسية مع طلاب السنة الثالثة المتعلقة ببناء الشخصية الواقعية من ناحية البناء الشكلي الفيزيولوجي وفهم عالمها الاجتماعي، وبناء السلوك السايكولوجي لها، والتي تقع في صلب فن الممثل، عملت إخراجياً على إحاطة كل هذه الشخصيات بإطار فني متكامل، من خلال ورشة قام بها الطلاب تحت إشرافي بتصميم الديكور والأزياء والإضاءة والموسيقى، كي يقدموا شخصياتهم ضمن عرض ذي حبكة وتشويق ومتعة”.
وأوضح عربي أنه يحب مدرسة بيتر بروك الإخراجية، بحيث إنه حذا حذوه، ففي كل 15 دقيقة كان يصنع منعطفاً جديداً في المسرحية، إما من خلال حدث، وإما إدخال شخصية جديدة، وإما من خلال إضافة صورة فنية أو لحظة إبداعية أو خيال إخراجي ما، بحيث إن الجمهور يبقى متحفزاً، ولا يصل إلى حالة الملل.
وعن سبب اختياره نص “الحضيض”، قال إن ذلك يقع ضمن معادلة يشتغل عليها منذ زمن، إذ يختار نصوصاً تتقاطع ضمنياً وفي جوهرها مع ما يشعر به الحضور في الزمن الحاضر. وبهذا، يكسب الجمهور وتعاطفه أكثر، والذي بدلاً من أن يتلقى العرض ومقولاته بالعقل فقط، يصبح تلقيه بالعقل والعاطفة معاً، وهو ما جعل عرض تخرج طلاب السنة الثالثة سورياً بامتياز، رغم أن نصه روسي الأصل.
من جهته، أوضح الدراماتورج زيد الظريف في تصريح لــ “الميادين الثقافية” أن غوركي لم يكن كتشيخوف وتولستوي ودوستويفسكي ذوي السعة الأدبية العالية، إذ استطاع بكم هائل من البساطة أن يجسد جروح المجتمع الروسي بملامح من الواقعية الجديدة التي لا تكتفي بانتقاء الذرى من الحياة اليومية، وتكثيفها وتعميقها أدبياً، إنما وضعها في خدمة البروليتاريا، بقضاياهم السياسية العامة، ومعيشتهم اليومية، وآلامهم الطبقية.
يقول “الظريف”: “نص الحضيض كان بداية تشكل تلك الملامح. وقد اختاره المخرج عروة العربي وفق أولويات عدد الطلاب، بما يقدمهم كممثلين بمساحات جيدة. أما عملي كدراماتورج، فكان أن أبرز مفاصل الشخصيات الدرامية حتى تكون بذوراً يعمل عليها الممثل، وتظهر قدراته وما تعلمه في السنة الثالثة، بما يؤهله ليكون في السنة الرابعة، ويتعرض لاختبارات جديدة تسهم في تخرجه فيما بعد ودخوله إلى سوق الحياة العملية”.
ويضيف: “لا أرضى أن أقدم عملاً له صفة أكاديمية من دون أن يكون فيه لمسة إبداعية تنفي الغربة بين الجمهور السوري والممثل مع الشخصيات والطرح. لذا، عملت على تبسيط الكثير من الأشياء، ونزعت عنها الحالة الروسية المغرقة بالبيئة المحلية لغوركي، وحاولت أن يكون الموضوع واضحاً وبسيطاً كما يدور في الحياة السورية، مع الحفاظ على اللغة الفصحى، واختزلت النص وكثَّفته جداً، وتركت هامشاً لعمل المخرج، لأنه صاحب مشروع إبداعي يمتلك رؤيته الخاصة”، مبيناً أنه حافظ على هوية النص وروحه الأساسية وفق شرط العمل الأكاديمي. لذا أسماء الشخصيات لم تتغير، وخطابها أيضاً، والنص لم يتبيّأ، لكن الشخصيات عندما تحكي وتخاطب بعضها بعضاً، تبقى مشاكلها واضحة ومفهومة، وهي مشاكل عرضية لها علاقة بمشكلة كل إنسان في أي بلد.
وعند سؤالنا: أين تلاقى هذا النص مع البيئة السورية؟ وكيف تم العمل عليه دراماتورجياً؟ أوضح الظريف: “منذ بداية تحليل النص وتفكيكه، ومن ثم إعادة بنائه، عن مجموعة تنتمي إلى طبقة القاع من أشرار ولصوص وعاهرات وفاشلين منبوذين من المجتمع، وكلهم يجتمعون بمكان واحد، كان في ذهني أن الحرب السورية أفرزت الكثير من هذه النماذج، وأغرقت الكثيرين في الفقر، وأبرزت حديثي نعمة لا يتمتعون بأي بنية أخلاقية، وأبرزت أيضاً كمّاً هائلاً من اليائسين والفاشلين. لذا، كان نص الحضيض مناسباًَ لسوريا بعد الحرب والمعاناة الاقتصادية التي يعيشها شعبها”.
ويضيف: “أكثر ما تقاطع مع الواقع السوري هو حالة انعدام الأمل التي جعلت شخصيات المسرحية تعيش نوعاً من اللامبالاة تجاه الأحداث الكبرى، كموت إنسان مثلاً، فنتيجة الضغط النفسي والاجتماعي يتكون داخل لاشعور الشخصيات بحرٌ من النسيان، تريد أن ترمي فيه كل مشاكلها والمآسي التي تتعرض لها من أجل أن تستمر في الحياة بأقل الخسائر الممكنة. حالة التبلد النفسي واللامبالاة بالأحداث الكبرى والمصيرية، وخصوصاً ما يتعلق بقضايا الموت والحياة، هي سمة غالبة على هذا النص، وهي تشبه تماماً ما يحدث في الحياة السورية الحالية. “أنا فقط أحيا وعلى غير هدى”. هذا ما التقطته بقوة واشتغلت عليه ليظهر النص بهذه الصيغة”.
يذكر أن الطلاب المشاركين في العرض هم: براء بدوي (بيبيل)، باسل عنيد (ساتين)، تيما الغفير (ناتاشا)، جعفر مصطفى (لوكا)، خالد النجار (بوبنوف)، شيراز لوبيه (ناستيا)، عمر نور الدين (ميدفيدف)، فارس جنيد (البارون)، لانا الحلبي (فاسيليزا/كفاشنيا)، مازن الحلبي (كليش)، حسن كحلوس (أليوشكا)، مراد أنطاكية (كوستليوف)، مرام اسماعيل (آنا)، ميرنا المير (فاسيليزا/كفاشنيا)، ورد عجيب (الممثل).