مقالات وآراء

عيد الميلاد المجيد وخطبة الجمعة .. بقلم المهندس باسل قس نصر الله

من الطبيعي بحكم عملي مع مفتي الجمهورية العربية السورية ، أن أتواجد – أكثر من غيري – في الجوامع والمساجد ، فأي مستشار لشخص ما ، سيكون – في أغلب الأحيان – في الأماكن التي يتواجد بها هذا الشخص ، سياسياً كان أم اقتصادياً أو دينياً أو غيره من الصفات ..

وقد لا يلعب الدين أو الانتماء الطائفي ، أهمية في اختيار مستشارٌ لسياسي معين أو اقتصادي أو حتى رياضي أو فني ، إلا أن القارئ سيفكر ( وهو معذور ) أن مستشاراً لمفتٍ مسلم ، لا بد أن يكون مسلماً ، ولكنه سيفاجأ عندما أقول أنني مسيحي .. 

لا شك أن المفتي العام لن يستشيرني في قضايا فقهية إسلامية – وهو يعرف ما يعرف ومعه من علماء الدين الإسلامي من تلمع أسماءها ، إلا أنه عندما يطرح نفسه كمفتي لكل المواطنين في سورية ( وليس المسلمين ) علينا أن نفهم لمَ يوجد مسيحي في الصف الأول مع المفتي .. 

في العام الفائت وخلال مؤتمر في فيينا حضرته مع سماحة المفتي ، قال لي السيد عمرو موسى ، الأمين العام للجامعة العربية ، بلهجته المصرية ، وذلك بعد أن علم أنني مسيحي " دَه إنتو في سورية ، إزاي تفكروا " ، وتأكدت حينها أن الرسالة السورية في العيش المشترك بين مختلف الطوائف والتيارات الدينية قد وصلت واضحة ، وخاصة ، كان ذلك خلال مأدبة الغداء التي أقيمت على شرف الوفود المشاركة ، وكنت على طاولة مستديرة مع كل من سفراء ألمانيا وفرنسا ومالطا لدى النمسا وآخرين .. 

كان المؤتمر يضم كل وزراء خارجية البلدان الأوروبية والعربية ضمن مؤتمر " أوروبا والعرب – شركاء في الحوار" بتنظيم من وزارة خارجية النمسا والجامعة العربية ، يضاف لوزراء الخارجية عدد قليل جداً من المدعوين الخاصين لحضور المؤتمر وإلقاء كلمة في الجلسة الختامية " لإغناء المؤتمر " ، وسماحة مفتي سورية كان الأكثر أهمية وذلك من خلال اهتمام الاهتمام الزائد من قبل وزارة الخارجية النمساوية به .. 

أعود إلى مأدبة الغداء ..

حيث تم التعارف ، وذلك بعد أن قرأنا أسماء وصفات الأشخاص الجالسين بجانب كل واحد منا ، بادرني سفير مالطا قائلاً أنه يعرف اللغة العربية ولكنه لم يستطع سوى بعد القراءة ( باللغة الأجنبية ) سوى فهم اسمي الأول وليس اسم العائلة ، فشرحت له باللغة الفرنسية ما معني اسم عائلتي ، وعندما قلت له أن القسم الأول منه هو " قس " ويعني كاهن ، اندهش السفراء وقال لي سفير فرنسا " ولكن الستَ مستشاراً لمفتي سورية ، وهو مسلم ، فهل كنت مسيحياً في السابق ؟ " فأجبته " ولكنني سيدي السفير ، أنا مسيحي " فصمت الجميع مندهشين ، وبدأنا نقاشاً تحول إلى عرض مبسط للعيش المشترك في سورية ، وقلت لهم " سادتي تتكلمون وتثنون المديح على دول سمحت بأداء بعض الشعائر الدينية على أراضيها ، وتنسبون إلى بلدي ( عن طريق الإعلام ) كل الموبقات ، بدءاً من الإرهاب إلى ما لا يخطر على بال…. في بلدي أيها السادة لسنا بحاجة إلى موافقة رئيس الجمهورية حتى نرمم – مجرد الترميم – كنائسنا ، وفي بلدي لا تُمنع أصوات أجراس الكنائس ، ولا يقوم نائب الملك بدعوة رؤساء الطوائف للحضور إليه لمعايدتهم ،… في بلدي سورية ، يكون ترخيص بناء كنيسة منوطاً بالجهة الإدارية التي تمنح ترخيص أي بناء ما ، وتكون الكهرباء والماء مجانيتين أسوة بالمساجد والمعابد اليهودية حتى ، وخلال تنظيم بقعة عمرانية ما ، يلحظ المخططون مكاناً لبناء معابد ( مساجد وكنائس ) ، وفي بلدي يتسابق رجال الدين المسيحي لمعايدة إخوتهم المسلمين ، الذين يبادروهم بمثلها خلال الأعياد المسيحية ، بل أن رئيسنا يتوجه بنفسه إلى كنائسنا وأديرتنا ليعيدنا "، وأخرجت الكومبيوتر المحمول وأريتهم صورة رئيسي بشار الأسد محاطاً بلفيف من رجال الدين الإسلامي والمسيحي ومختلف التيارات والطوائف وذلك في إحدى الأديرة ، وقلت لهم " سادتي، إن هذا الشعب لا ينتج إرهاباً بل حباً , واندهش الجميع مما قلت ومن الصورة وقالوا لي " لماذا لم تنشروا الصورة ؟ ولماذا لا يسلط الإعلام العالمي الضوء على هذه النماذج " .. وهنا أحسست بضعفي وعدم مقدرتي على الإجابة .. 

منذ أيام ، في يوم عيد الميلاد المجيد ، حضر إلى مدينتي احد اللوردات البريطانيين ، وهو عضو في مجلس اللوردات البريطاني ، يرافقه سفير سورية في بريطانيا ، وكان اللقاء عند الشيخ أحمد حسون مفتي عام سورية ، وسبقته قبل أسبوعين سفيرة الدانمرك في سورية ، والتي قالت لسماحة المفتي ، أن وجود مستشار مسيحي هو أكبر دحض لمقولة الاضطهاد الديني .. 

أعود إلى اللورد البريطاني الذي حضر خطبة الجمعة المصادف في يوم عيد الميلاد المجيد ، لقد سمع من سماحة المفتي العام في خطبته بجامع الروضة في حلب ، قصة ولادة السيد المسيح ، كما نرويها في كنائسنا ، فالتفت وسألني هل كان المترجم ينقل له الخطبة بشكل صحيح ، لأنه لم يصدق أذنيه , كما سألني أليس اليوم هو عيد الميلاد وأنا موجود معه في مسجد بدلاً من وجودي في كنيسة .. 

نعم سيدي اللورد ..

هذه سورية وهذا منهج رئيس بلادي وهذا فكر سماحة المفتي العام ، وهذا هو الشعب السوري ، فنحن لا نتعامل ونقسم بعضنا البعض إلى طوائف ، بل إلى مواطنين ، فلا تستغرب وجودي كمستشار لمفتي سورية وأن أقضي أنا المسيحي يوم عيد الميلاد في حضور صلاة الجمعة وخطبتها .. 

الله اشهد إني بلغت ..

تعقيب رئيس التحرير .. 

إن ما ورد يستحق منا كشبكة زهرة سورية الاجتماعية كل الاحترام والتقدير , ولأننا ومنذ أن انطلقت شبكتنا عبر الانترنت كنا ننادي بإنارة مثل هذا الفكر المتأجج فينا نحن السوريين العرب , وذلك لأن سورية كما ورد في سياق الحديث قائداً وشعبناً متلاحمين لإعادة أعمارة الحضارة التي شهدتها هذه البلد منذ قرون .. حضارة المرأة العربية ( زنوبيا ) وحضارة العروبة التي تحدت كل أشكال الاضطهاد والتي أثبت جدارتها بمقاومة أشكال التدخل الاستعماري ( البيزنطي ) .. كما أننا في سورية ماضون في بناء حضارة جديدة لم يشهدها العالم ومنطقة المشرق العربي , حضارة التآخي الديني ورغبة التعايش المشترك ..

بواسطة
المهندس باسل قس نصر الله
المصدر
زهرة سورية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السيدالمهندس باسل قس نصر الله
    رائع مقالك هذا.. دمت وكل اخواننا المسيحيين بالف خير وإن شاء الله تدوم المحبة بيننا ابد الدهر وان نعمل جميعا على تعزيزها.. انا يهمني هذاالأمر واكتب عنه في مدونتي”آفاق2″.. ومنها ما كتبته بمناسبة عيد الميلاد:

    الله محبة (1)

    كتبهاعائدة الخالدي ، في 23 كانون الأول 2009 الساعة: 09:48 ص

    أثناء تواجدي في سويسرا الأسبوع الماضي تابعت برنامج ذو موضوع ساخن: الاستفتاء الذي جرى في سويسرا، والذي كانت نتيجته رفض السويسريين لبناء مآذن للمساجد في بلدهم!.. ومما عرضه البرنامج كان تقريراً عن أحوال الأقباط في مصر، حيث تم اجراء مقابلات مع بعض الاخوان الأقباط تحدثوا عن أحوالهم، ومنها خوفهم من أعمال عنف ضدهم بسبب التعصب الديني، وكذلك التمييز ضدهم في الوظائف الحكومية.. الخ.

    لقد كنا مرة نتبادل المعلومات عن كل من بلاد الشام ومصر، أنا وقارئ مدونتي الأخ الكريم محمد هبا من مصر.. فأرسل هذه المعلومات من ضمن ما أرسل:

    (( روي عن عبد الله بن عباس أنه قال: دعا نوح عليه السلام ربه، لولده وولد ولده: ( مصر بن بيصر ) بن حام بن نوح، وبه سميت مصر، وهو أبو القبط فقال: اللهم بارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة التي هي أم البلاد وغوث العباد، ونهرها أفضل أنهار الدنيا واجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الروض، وذللها لهم، وقوهم عليها.

    كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جماعة من الملوك منهم هرقل، فما أجابه أحد منهم، وكتب إلى المقوقس عظيم القبط بمصر فأجابه على كتابه جواباً جميلاً، وأهدى إليه ثياباً وكراعاً وجارتين من القبط؛ مارية وأختها وأهدى إليه عسلاً فقبل هديته، وتسرى بمارية، فأولدها ابنه إبراهيم، وأهدى أختها لحسان بن ثابت فأولدها عبد الرحمن بن حسان.

    وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:”ستكونون أجنادا، وخير أجنادكم الجند الغربي، فاتقوا الله في القبط: لا تأكلوهم أكل الخضر”. وأنه قال:”روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ستفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيراً، فإن لكم منهم صهرا وذمة”.

    فأما الرحم، فإن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام من القبط من قرية نحو الفرما يقال لها الآن: أم العرب.

    وأما الذمة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم، تسرى من القبط بمارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من قرية نحو الصعيد، يقال لها حفن من كورة أنصنا، فالعرب والمسلمون كافة لهم نسب بمصر من جهة أمهم مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، والقبط أخوالهم)).

    عيد ميلاد السيد المسيح على الأبواب، وقد كّرمه الله، وأمه مريم العذراء، في القرآن الكريم بسورة عمران، وفي سورة مريم، وفي آيات كثيرة.. فلم لا نستوصي خيراً بأخواننا ممن اتبع عيسى عليه السلام؟

    هل نسينا أن اجدادنا لم يكونوا ليأسسوا تلك الحضارة العظيمة التي امتدت من أقصى الأرض إلى أقصاها لولا روح التسامح التي كانت سائدة؟

    شعرت بالأسى وشعرت بالأسف؛ لأننا ننشر دائماً غسيلنا الوسخ أمام الآخرين.. لماذا لا يكون غسيلنا من الأساس نظيفاً ناصع البياض؟!

    نحن نفسح المجال دائماً للغير (وأقصد هنا الغرب) كي يسجل علينا نقاطاً ليست في صالحنا.. سواء كنا مسلمين أو مسيحيين.

    أنا – وبحكم عملي وظروفي الأسرية – على احتكاك دائم بالأجانب، وأسعى بكل جهدي كي يروا الجوانب الايجابية في حياتنا، وبالتالي أحاول أن أتجنب المواقف السلبية أمامهم فيما يتعلق بتعاملنا مع بعض.. فلا أشتكي مثلاً من زميلي العربي أمام زميلي الأجنبي، أو من المسيحي أمام المسلم، حتى لو كان مخطئاً وأزعجني بتصرف ما، كما تعوّدت أن يكون حكمي على البشر من خلال مواقفهم وتعاملهم وأخلاقياتهم، ولم يكن دين المرء من أولويات ذلك الحكم أبداً:

    دعتني سامية مرة لمشاهدة احتفالات “عيد الصليب” في بلدة معلولا، وأشارت إلى أعلى الجبل وهي تقول: من هذه الجهة يشعل الغربيون النار.. ومن هذه الجهة يشعلها الشرقيون، ويتبارون من هو الأسرع في صعود الجبل، ومن تكون شعلته أكبر.

    فمازحتها قائلة: وهل أنت شرقية أم غربية؟*

    – والله يا عائدة.. أنا لا شرقية ولا غربية، ولا مسلمة ولا مسيحية.. أنا محسوبة على المسيحيين أنني مسلمة، وعلى المسلمين أنني مسيحية!

    صديقتي سامية (المسيحية) قضت عمرها في تعليم ذوي الاحتياجات الخاصة، وكان عملها مرهقاً فترك آثاره مرضاً في جسدها؛ لكنها كانت تنسى تعبها أمام بسمة طفل، أو علامة جيدة يحرزها أحد تلاميذها في المدرسة.

    تذهب لشيخة زاهدة كي ترتاح بسماع تلاوتها القرآنية، وتحفظ آيات قرآنية تواسيني بها في وقت الضيق..

    معظم صديقاتها من المسلمات، ومن المحجبات تحديداً، وعندما أجرت عمليتها الجراحية عرفت أن محبة الناس لها هي أثمن رصيد.. لقد أخبرتني الكثير مما فعله الكثيرون من أجلها، وكيف أن بعض النسوة ذهبن للعمرة، ووقفن هناك يدعون لها هناك بالشفاء مع حوالي 100امرأة لا يعرفنها، وأما هي فإيمانها قوي بالله ومستسلمة لقضائه؛ لكنها ليست مستسلمة للمرض.

    زميلتي نجوى، وعندما حلّت بي المصيبة دون سابق انذار،اذ سقطت ابنتي فجأة في الغيبوبة.. هبت لنجدتي في الليل وجاءت بالمبلغ المالي الذي طلبته منها في تلك الساعة المتأخرة..

    كانت تأتي تحت المطر إلى المشفى لتطمئن على الوضع، وتدمع عيناها لرؤية ابنتي..

    لم تنقطع زياراتها لياسمين بالبيت؛ فكانت تجلب لها للبركة بخوراً وزيتاً من دير صيدنايا حتى سافرت ابنتي للعلاج.

    “الدين معاملة”.. هذا ما تعلمناه ولكننا لا نطبّقه في حياتنا العملية كما ينبغي، ونحن لا يحق لنا أن نحكم على البشر من خلال دينهم أو مذهبهم..

    وهذه هي حكمة الله سبحانه وتعالى، التي لا تدركها عقولنا القاصرة:

    “لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجا”..

    – “ولو شئنا لجعلناكم أمة واحدة”..

    والله وحده هو الذي يحكم بين عباده ويحاكمهم:

    – “إن جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم”..

    – “إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً”..

    الله محبة، وقد أوصانا بها الله سبحانه وتعالى، وبعث سيدنا عيسى عليه السلام رسولاً للمحبة ومن بعده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام.

زر الذهاب إلى الأعلى