(جي ستريت) نظرة عن كثب .. بقلم هشام منور
تمتلك ( إسرائيل ) واحداً من أقوى جماعات المصالح في الولايات المتحدة الأميركية، إن لم يكن أقواها على الإطلاق ، وأكثرها نفوذاً ..
فقبل كل انتخابات تشريعية ورئاسية يتهافت المرشحون الجمهوريون والديمقراطيون على اعتلاء منصة منظمة ( إيباك ) ، الداعم الرئيسي لإسرائيل في أميركا، وتقديم مزايداتهم في إبراز حجم الدعم المتوقع منهم للحليفة ‘’إسرائيل’’ حال انتخابهم، إذ يعكس مدى نفوذ هذا اللوبي المتشدد في دوائر صنع القرار الأميركية، كما يدل على أهمية مثل هذه الجماعات في الحياة السياسية الأميركية، والتي يكفل الدستور الأميركي إنشاءها واستمرارها وتنظيم نشاطاتها.
إلا أن سياسة لجنة العلاقات الأميركية الإسرائيلية (إيباك) تعدّ في نظر كثير من المراقبين منسجمة إلى حد بعيد مع سياسة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وأحد أهم روافدها لجهة تزويدها بالباحثين وصنّاع القرار في المرافق الحيوية الأميركية. وعلى الرغم من شعبية هذه المنظمة اليمينية المتشددة في أوساط السياسة الأميركية وحرص الجميع على التقرب منها والتودد إليها ودعم توجهاتها ومآربها، لا سيما في الشرق الأوسط، فإنها في نظر اليهود الأميركيين أنفسهم، وهم الذين يغلب عليهم الطابع الليبرالي الشبيه بنموذج الحياة الأميركي المفارق للنموذج اليهودي الديني في مناطق أخرى من العالم، لا تكاد تعبر عن توجهات الناخب اليهودي الأميركي المعروف بولائه لسياسات وتوجهات الحزب الديمقراطي الأميركي الأكثر ليبرالية وانفتاحاً على الأقليات الدينية والعرقية في الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من تأييد معظم اليهود الأميركيين ‘’ لإسرائيل ’’، على اختلاف توجهاتهم، إلا نمط التفكير السائد بين التيار الليبرالي الغالب على تكوين الأقلية اليهودية لا يؤيد السياسات العنصرية التي تنتهجها الحكومات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني من حصار وتدمير للبنية التحتية وبناء للجدار العازل وتقويض أبسط مقومات الحياة الكريمة للشعب الفلسطيني. وهم بالمقابل يدعمون بقوة التوصل إلى اتفاقية سلام بين الطرفين لما يرونه من أهمية ذلك لكلا الجانبين على حد سواء، من وجهة نظرهم.
ومع تعالي أصوات الحرب وقرع طبولها الدائم في المنطقة، شكلت مجموعة من المدافعين عن التوجه الليبرالي بين صفوف اليهود الأميركيين منظمة جديدة تركز على دعم السياسيين الأميركيين الذين يؤمنون بضرورة التحرك نحو إنجاز تسوية سلمية حقيقة في الشرق الأوسط في تحد صريح منهم لأقوى جماعات الضغط الموالية لإسرائيل في الولايات المتحدة ‘’إيباك’’. وقد أسس هذه المنظمة، والتي سميت (جي ستريت)، عدد من رموز اليهود الأميركيين ‘’الليبراليين’’ بمساندة من شخصيات معروفة في المجتمع الإسرائيلي بهدف مساندة جهود السلام في الشرق الأوسط، والوقوف في وجه ‘’ إيباك ’’ التي يعتبرها كثير من اليهود الأميركيين متشددة في سياساتها المدافعة عن ‘’إسرائيل’’، رافعين شعار "مؤيدون لإسرائيل، مؤيدون للسلام".
ويعدّ كل مم ( جيرمي بن عامي ) المستشار السابق للسياسة الداخلية في إدارة الرئيس كلينتون، و( دانيال ليفي ) المستشار السابق لرئيس الحكومة الإسرائيلية ( باراك )، العقل المدبر للجماعة الجديدة. وجاء في بيانها التأسيسي: " لفترة طويلة من الزمن كانت الأصوات الوحيدة التي يصغي إليها السياسيون فيما يخص صناعة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط تأتي من قلة عالية الصوت من أقصى يمين المجتمع اليهودي الأميركي ، منهم المحافظون الجدد واليمين المتشدد والمسيحيون- الصهيونيون الراديكاليون " ..
وتسعى هذه المنظمة الجديدة إلى إعادة تعريف مفهوم " تأييد إسرائيل " في واشنطن ، وهو المفهوم المحوري لأي سياسة أمريكية خارجية، مهما كان ولاؤها، إذ إن أفكار اليمين المتشدد والمحافظين الجدد باتت في الآونة الأخيرة المحدد الرئيسي لهذا المفهوم.
وقد فضلت هذه المنظمة الجديدة اتباع استراتيجية مساندة مرشحين من أنصار السلام في أي انتخابات تشريعية؛ كي يكون للجماعة صوتاً في دوائر صنع القرار في ظل ضعف الميزانية المبدئية ( 5,1 مليون دولار ) بالمقارنة مع " إيباك " (100 مليون دولار، وعدد أعضائها 100 ألف شخص ، ولها مكاتب في 18 ولاية ) ، وتحاول المنظمة عدم تحدي النواب الديمقراطيين القدامى ممن يدينون بولاء تام لإسرائيل وتسعى بالمقابل إلى بناء أرضية جديدة تدعم جهود السلام ولا تشجع امتداد الصراع إلى ما لا نهاية.
وتضم قائمة المؤسسين للمنظمة شخصيات أمريكية وإسرائيلية مشهورة، كالسيناتور السابق (لينكولن شافي)، والكاتب الشهير ( هنري سيجمان )، و( مورتن هالبيرن ) مدير التخطيط بالخارجية الأميركية سابقاً، و( ماركوس كونالاكس ) ناشر مجلة " واشنطن مانثلي " ، و( صامويل لويس ) السفير الأميركي السابق لدى " إسرائيل " ، والباحث المعروف ( روبرت مالي )، و( روبرت سولومنت ) أحد الشخصيات اليهودية البارزة المؤيدة للمرشح الديمقراطي ( باراك أوباما )، و( حنا روزنتال ) المدير السابق للمجلس اليهودي للشؤون العامة، وغيرهم من حاخامات وأساتذة جامعات وكتاب. فضلاً عن ( يوسي الفار ) مسؤول الموساد السابق، و( شلومو بن عامي ) وزير الخارجية الأسبق، و( أبراهام بورغ ) رئيس الكنيست السابق، و( داليا رابين ) النائب السابق لوزير الدفاع، وكثير من الجنرالات المتقاعدين.
وفيما يتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط، تحاول المنظمة إنهاء التأثير الطاغي للجماعات المتشددة اليمينية، مما يعدّ تحدياً حقيقياً لمنظمة " إيباك " المتنفذة والتي تستمد شعبيتها من خلال مناصرة السياسات الإسرائيلية، سيما أن المنظمة الجديدة سوف تجتذب تبرعات الجناح الليبرالي من المجتمع اليهودي الأميركي المؤيد للسلام وفرض حل الدولتين.
ربما تكون منظمة " جي ستريت" غير قادرة ، في الوقت الحالي ، على منافسة " إيباك " في نفوذها وقدرتها على التأثير في دوائر صنع القرار في واشنطن، لكنها ، دون أدنى شك، سوف تحدث حراكاً سياسياً واجتماعياً داخل المجتمع اليهودي الأميركي، بما يبرز، على الأقل، من سياسات الدولة العبرية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويفضح من ممارساتها، ويقلل إلى حد ما من الدعم الأميركي اللا محدود لها، في ظل هيمنة ‘’ إيباك ’’ على المشهد السياسي الأميركي، وسعي مفرداته إلى استقطاب دعمها وكسبه. فالمواقف التي أعلنتها " جي ستريت " بخصوص الانسحاب من العراق ، وفتح مبادرات الحوار مع سوريا، وتجنب أي مواجهة عسكرية مع إيران، بخلاف مواقف " إيباك " تماماً ، تسمح بإعادة التفكير في مستقبل العلاقة التاريخية الحميمة بين الولايات المتحدة الأميركية و" إسرائيل " في ظل بروز صوت جديد يعتبر نفسه ممثل الأغلبية الصامتة والمهمشة بين اليهود الأميركيين، فهل تهتك ‘’الحملان’’ بصراخها جدار الصمت الحديدي، أم أنها لا تعدو أن تكون مجرد ذرّ للرماد في العيون، ومحاولة للتغطية على جرائم "إسرائيل" في فلسطين، ودعم مواقفها أمام المجتمع الدولي؟!.