عندما يفقد المقدسيون صوابهم المفقود أصلا…! .. بقلم د. صلاح عودة الله
على هذه الأرض ما يستحق الحياة .. شاعر القضية الفلسطينية ومقاومتها الراحل محمود درويش ..
قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن أطلق الكاتب والأستاذ والصحفي المرحوم محمد أبو شلباية صرخته المدوية"واحسرتاه يا قدس" وذلك من خلال كتاب حمل أسم هذه الصرخة..في صرخته هذه عبر عن حزنه وحسرته عما سيحل بالقدس إذا ما استمر الوضع كما كان عليه في تلك الفترة..ورغم حداثة الاحتلال في ذلك الوقت إلا أن المرحوم "أبو مؤنس" كان يتوقع ويعرف تماما ما سيحل بالقدس وكأنه منجما ويجيد قراءة الفنجان, فرحمك الله يا أبا مؤنس ونعم, واحسرتاه يا قدس..!.
ألم يحن الوقت لنفتش عمن ينقذنا من جهلنا ومن تخلفنا؟..ألا يصدق فينا القول بأننا أمة ضحكت بل خجلت من جهلها الأمم؟..لماذا نصر على التمسك بعادات وتقاليد تخجل منها حتى الأمم التي عاشت في العصور الحجرية؟..ألم يحن الوقت لنضع مصالح الوطن العليا عامة والقدس خاصة فوق كافة المصالح الحزبية والقبلية والعشائرية والفئوية الضيقة؟..هل أصبح قتل النفس البشرية دون أي سبب أمرا طبيعيا وعاديا بل محللا؟..هل هانت علينا القدس التي تشهد أكبر وأوسع عملية تهويد, بل وأكثر من ذلك بكثير, فنحن نشارك بهذا التهويد.. "الأقصى في خطر", شعار نتباهى بترديده, فالحفريات تهدد بانهياره, ولكن هل سألنا أنفسنا:ألم يحن الوقت للعمل وترك الشعارات الرنانة, وهنا أستثني قلة قليلة وعلى رأسها الشيخ المناضل رائد صلاح, هذا الشيخ الجليل الذي قدم للقدس وأقصاها ما لم تقدمه دول العالمين العربي والاسلامي مجتمعة..هذا الشيخ الذي حكمت عليه المحكمة الصهيونية بالسجن لأنه يعمل وبإخلاص من أجل القدس ومقدساتها ولا يكتف بإطلاق الشعارات التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
ازدادت في السنوات الأخيرة في مدينة القدس وضواحيها أعمال العنف والمشاجرات العائلية والتي يدفع ثمنها في أغلب الأحيان أناس لا علاقة لهم بها لا من قريب ولا من بعيد..شجارات عائلية مخزية ومقرفة ومزهقة لأراوح الأبرياء..شجارات سببها الرئيسي في معظمها تافه.."صفة سيارة"," قيادة سيارة بسرعة جنونية في أحد الأحياء المأهولة بالسكان", "شاب مراهق يدعي بأن شابا آخر نظر إليه بنظرات غريبة", وغيرها الكثير من الأسباب التافهة.
إن من يتابع ما يجري في القدس في الفترة الأخيرة يؤكد بأننا عدنا إلى زمن داحس والغبراء..القدس تعيش وضعا يأكل فيه القوي الضعيف, تماما كما تلتهم الأسماك الكبيرة الأسماك الصغيرة..القدس تحكمها شريعة الغاب, بل أجزم بأن للحيوانات شريعة تفوق في قوانينها وحكمتها تلك الشريعة التي تسيطر علينا في فلسطين عامة والقدس خاصة.
مما يؤسف حقا أن نقول وعلى الدوام بأن الاحتلال هو السبب في كل مشاكلنا, مع عدم إنكاري بأن الاحتلال هو المعني بهذه الظاهرة وغيرها من الظواهر الاجتماعية التي تؤدي إلى تسيب الشباب وبذلك يبتعدون عن مقارعته..إن واقع الاحتلال للقدس وباقي أراضي الوطن يجب أن يجعلنا يدا واحدة قوية, لا أن نقوم بقتل بعضنا بعضا..فمن الخلافات العائلية المنبوذة وصولا إلى ما جرى بين حركتي فتح وحماس لهو أمر يرضي الاحتلال بل يجعله يرسخ أسسه, ومن هنا نجد أنفسنا مضطرين للقول: وداعا يا قدس ووداعا يا فلسطين.
إن الشجار العائلي المؤسف والمخجل في نفس الوقت الذي حدث مؤخرا بين عائلتين في مدينة القدس والذي كان سببه أتفه من تافه, بل لا مبرر له..شجار كان فيه القتلى والجرحى وتدمير محلات تجارية..شجار وكغيره من الشجارات تكون له آثاره على المدى البعيد, فالانتقام والأخذ بالثأر من سماته الرئيسية. انه لأمر تقشعر له الأبدان..إن من شاهد هذا الشجار يجزم بأنه يشاهد حربا بين جيشين, فقد تحول شارع صلاح الدين في القدس المحتلة إلى ساحة حرب, الجيش الصهيوني يراقب عن بعد ما يجري في هذه الساحة وهمه الوحيد هو اعتقال من يحمل السلاح الناري" غير المرخص".
إن هذا الشجار سيحل وكغيره بدفع الدية وتعويض المتضرر والحق الكبير يأكل الحق الصغير..ولكن ما قيمة الأموال مقابل قتل نفس بشرية تترك من خلفها الأطفال الأبرياء اليتامى؟, انه سؤال من بين العديد من الأسئلة, فهل من مجيب؟, وهنا أقول أين المروءة التي سئلت وهي تبكي عن سبب بكائها, فأجابت:كيف لا أبكي وأهلي جميعا دون خلق الله ماتوا؟.
انه لمن المؤسف أن نرى حشودا من الشباب يتم تجييشها خلال ساعات بل دقائق معدودة عند وقوع شجار عائلي, متبعين سياسة"أنا وأخوي على ابن عمي, وأنا وابن عمي على الغريب", وفي المقابل نشاهد غياب واضح وجلي لهذه الحشود عندما يتعلق الأمر بهدم البيوت ومصادرة الأراضي والحفريات التي تهدد الأقصى وغيرها الكثير من الأمور التي تهدد القدس بالتهويد وابعاد سكانها الفلسطينيين العرب عنها, لكي تصبح يهودية بحتة. مع احترامي للقضاء العشائري ودوره, إلا إن المطلوب منه ومن القوى الوطنية الشريفة أن تقوم بإلغاء هذا الحل السحري..هذا الحل الذي أصبح هو الحل الرئيسي لكافة مشاكلنا صغيرة كانت أم كبيرة..انه"فنجان القهوة"..إن هذا الفنجان اللعين أدى إلى زيادة أعمال العنف, فمفتعل المشكلة يدرك بأن هذا الفنجان سيحل له قضيته مهما كانت. ندرك تمام الإدراك بأن الاحتلال هو الرابح الوحيد من هذه الظواهر المخزية, ومن هنا وفي ظل غياب سلطة وطنية ومؤسسات قانونية, فإننا نطالب القوى السياسية بكافة ألوانها وأطيافها بأن تقوم بتشكيل لجنة موحدة حيادية قادرة على وضع حد لمثل هذه الظواهر والسبل كثيرة وواضحة, وكذلك نطالب من لهم علاقة بالقضاء العشائري أن يكونوا حياديين وأن يحكموا عقولهم وضمائرهم وليس قلوبهم والعادات العربية والإسلامية من كرم وتسامح, وكذلك نطالب رجال الدين أن يقوموا بدورهم الفعال من خلال خطبهم بدلا من إصدار فتاويهم الفارغة من كل مضمون..تلك الفتاوي التي تقوم بالتخوين والتكفير وتعميق جذور الطائفية والمذهبية في مجتمعنا.
نطالب كذلك الشباب بالتفكير ولو قليلا من الوقت قبل افتعال مشاكلهم, فمشاكلهم التافهة هذه, قد تؤدي إلى سفك الدماء و"تخريب" بيوت كثيرة, وكذلك نطالب"مشايخ" العائلات بعدم الهرولة وراء تصرفات أبناء عائلاتهم الطائشين, فتحكيم العقول هو السلاح الفعال وليس"فنجان القهوة السحري". والى كل المقدسيين وبغض النظر عن انتمائهم العشائري أو الحزبي أقول: إن ما يحدث في مدينتكم لهو على درجة عالية جدا من الخطورة, فلنحكم عقولنا ومنطقنا ولنبتعد عن العشائرية والقبلية المقيتة, فهي التي ستدمر ما تبقى من قدسكم..فالوطن والقضية والقدس أغلى ما نملك, ومن لا وطن له لا حياة ولا وجود له.
وأختتم قائلا بصرخة المرحوم أبو شلباية:"واحسرتاه يا قدس"..إنها فعلا صرخة مدوية جدا, فهل من مجيب؟..وليكن شعارنا الوحيد هو"كلنا فداك يا قدس"..!.