الجابري والرحيل في زمن الاسئلة بقلم مأمون شحادة
ما إن تطورت المنطقة العربية الإسلامية مع الفتوحات والغنائم، وانتشار الاسلام، حتى بات نموذج امير الحرب غير قادر على استيعاب التطورات التي حصلت، فظهر الاجتهاد يبتغي
وجه المصلحة اولاً واخيراً ليوافق بين الدين والمجالات الحياتية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، وفق تغيّر الأحوال السابقة، على اعتبار ان المنافع والمضار أمور نسبية، تتغير بتغير الظروف والأحوال، وان التطبيق وحده هو الذي يجب ان يتغير بتغير المصالح، هكذا هي رؤية المفكر العربي الراحل محمد عابد الجابري في إعادة بناء الهيكلية المرجعية للتطبيق.
فالأمر إذن لا يعني تعطيل النص (برأي الجابري)، بل تأجيله بالتماس وجه آخر لفهمه وتأويله، كالمسائل التي عمد فيها الصحابة الى تطبيق الشريعة على اساس مراعاة الظروف وعدم التقيد بحرفية النص مقدمين اولوية المصلحة عليه، اي مصلحة المسلمين حاضراً ومستقبلاً، وذلك كما فعل عمر بن الخطاب في امر الخراج، حينما رفض توزيع سواد ارض العراق على الفاتحين معللاً ذلك خوفه على الحالة الأمنية لأرض المسلمين، اي (الثغور)، وكذلك رفضه إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة معللاً ذلك أن الإسلام قوي وفي غير حاجة الى تأليف القلوب، موضحاً ان زمن الماضي غير الحاضر، وايضاً تعطيله للزواج من كتابيات بحجة الخوف من الوقوع في شرك المومسات (الوقاية)، واستفحال العنوسة، ليتضح ان تطبيق الشريعة على عهد الصحابة، كان ينظر له من خلال ما يترتب عنه من مصلحة او مضرة، ليتوافق مع الظروف الحياتية، وفق اركان ثلاثة، النسخ، واسباب النزول، والمقاصد، من اجل التوافق مع متطلبات العصر المعاش.
اما اليوم وقد تطورت الاحوال الحياتية تطوراً هائلاً، ما جعل من الحياة المعاصرة واقعاً تختلف “نوعياً” عن الحياة السابقة، لذلك فان تطبيق الشريعة يتطلب اعادة تأصيل الاصول، على اساس اعتبار المصلحة الكلية كما كان يفعل الصحابة بما يتناسب العصر وأحواله وتطوراته، ويتطلب اعادة بناء الهيكلية المرجعية للتطبيق، وهي مرجعية عمل الصحابة في مراعاة الظروف الحياتية لتقبل الوضع القائم، ليتضح ان الصحابة راعوا ظروف مجتمعاتهم وقدروها “تقويماً وتقييماً” بالمعيار النسبي في تغيّر الأحوال والظروف للملاءمة ما بين جيل وآخر.
إذن، ووفق رأي الجابري… افلا يستوجب البدء بالتمييز بين السلطة المنفذة للأحكام الشرعية، وبين الهيئة الاجتماعية المسماة دولة؟ وعدم اعتبار ان الدين يشتمل على احكام يجب ان تنفذ، وان الدولة هي السلطة التي يجب ان تتولى التنفيذ؟ وهل نستطيع مراعاة الاحوال والظروف الاجتماعية؟ مع العلم انه ليس هنالك حرمان للإسلام من السلطة التي يجب ان تتولى تنفيذ الاحكام.
ولكن للجابري ثمة سؤال: هل الاسلام دين ودولة؟… وهل هناك فراغ دستوري كبير في نظام الحكم الذي قام بعد وفاة النبي (ص)؟ نعم، يتجلى لنا هذا الفراغ، نحن ابناء القرن الواحد والعشرين، من خلال عدم إقرار طريقة واحدة مقنعة لتعيين الخليفة، فبقي الباب مفتوحاً لكل الاجتهادات والاحتمالات، وايضا عدم تحديد مدة ولاية الخليفة التي كانت تنتهي حتما بانتهاء الحرب وفقدان لقب “الأمير”، كذلك عدم تحديد اختصاصات الخليفة لا عند بيعة ابو بكر ولا عند بيعة عمر، ولا عند عثمان، بسبب هيمنة نموذج امير الجيش على العقل السياسي العربي آنذاك، وقصة عثمان اكبر دليل على ذلك، افلا يستدعي كل ذلك مراعاة الظروف الحياتية بكل المقاييس المعاشية والاعتراف انه يجب ممارسة الشورى بالانتخاب الديمقراطي الحر، وتحديد مدة ولاية رئيس الدولة مع اسناد مهام السلطة التنفيذية لحكومة مسؤولة امام البرلمان مع تحديد اختصاصات كل من رئيس الدولة والحكومة والبرلمان بصورة تجعل من هذا الاخير هو وحده مصدر السلطة، فتلك المبادئ لا يمكنها ممارسة الشورى في هذا العصر من دون إقرارها والعمل بها.
بعد كل هذا يضيف الجابري، ليس هناك ما يبرر تحفظ بعض الحركات السياسية “الاسلامية” من الديمقراطية الحديثة، ومراعاة الظروف الحياتية لهذا العصر، وعدم التقييد بآراء فقهاء السياسة السابقين (مثل الماوردي)، لان كتاباتهم كانت تراعي الظروف الحياتية لعصرهم، وان الظروف الحياتية الحالية تختلف عن ظروفهم، الامر الذي يقتضي مراعاة الظروف الحياتية لهذا العصر كما راعوا ظروفهم وفق اجتهادات تراعي مصلحة المجتمع، ليتبين لنا ان المجتمع العربي لم يراعِ ظروفه الحياتية الحاضرة، بل اخذوا يقيسون عليها باجتهادات فقهاء السياسة السابقين، معتبرين انها طريقاً لمواجهة المعضلات الحالية وغير مدركين ان هؤلاء الفقهاء السياسيين قد راعوا ظروفهم، ولم يتقيدوا بظروف من سبقهم… افلا يتوجب على المجتمع العربي مراعاة ظروفه الحالية من اجل التغلب على المعضلات التي تواجهه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*محمد عابد الجابري : مفكر وفيلسوف عربي (مغربي الاصل)، توفي "الاثنين – 3/5/2010" عن عمر يناهز 75 عاماً، اثر نوبة قلبية حادة .