صدامات توأم .. سيامي .. بقلم محمد طعيمة
وجها عملة العدالة ، تداخل وظيفي .. وعضوي .. توأم سيامي ، جالس .. وواقف ..
الوقائع واحدة تقريباً، ذات الضحية. الفرق بين الحكمين يوم واحد، لكنه بين العقوبتين.. شاسع. وفق رواية النيابة في القضيتين: محاولة إنهاء أوراق، تطورت إلى مشادة.. فاعتداء بالضرب. في الأولى المتهم مواطن عادي، وفي الثانية محام .. ضُم إليه ثان .. الضحية في الأولى وكيل نيابة "واحد"، وفي الثانية (4) نيابة + (5) شرطة. الحكم في الأولى الحبس ثلاثة أشهر.. بدلاً من ستة كما حكم أول درجة، وفي الثانية خمس سنوات. الأول أصدرته جنح مستأنف أسيوط الخميس 10 يونيو الجاري، والثاني أصدرته جنح أول طنطا الأربعاء 9 يونيو الجاري ..
الرواية العكسية، تسخر من تمكن (2) من ضرب (4) + (5) في غرفة تحت سيطرة الـ(9)، وتوزع صوراً لأحدهما وآثار اعتداء فادح بادية عليه. وأنه حتى وفق رواية النيابة، فإن فارق العقوبة لا يبرره وجود ظرف مُشدد، هو كون المتهمين رجليْ قانون.
الروايتان، على تناقضهما، تفضحان غياباً تاماً لاحترام القانون، وميلاً، أصبح عفوياً، لاقتضاء الحقوق باليد، وتعسفاً في استخدام سلطة دستورية في صراع "مهني". كأننا أمام معركة قبلية، تبلورت في توحد غير مسبوق بين أفراد كل فريق، امتدت آثاره إلى عائلات عُرفت تاريخياً بحضورها الفاعل بمهنتي التوأم.
تحت الروايتين كتل جليد نتغافل عنها، منها ما ينال من المحامين وحدهم. شعور بالظلم والمهانة على أيدي الشرطة والنيابة معاً، من "لطعهم" أمام المكاتب والأقسام.. لإهاناتهم بالقول والفعل. ضمن كتل الجليد، شعور عام بـ"الخنقة" والاحتقان لدى وبين المصريين. لكن أخطر كتلة، التماس المباشر لكل من المحامين والقضاة مع انهيار دولة القانون. الدستور مُنتهك والقانون مُهدر، والأحكام لا تنفذ، والمتهمون يمرون إلى قفص الاتهام عبر نفق التعذيب. لهذا، مثلاً، تفادى المستشار محمود الخضيري نظر القضايا الجنائية ليُريح ضميره، فهو ملزم بالحكم وفقاً للأوراق "المتستفة"، لا حسب ما يؤكده "العلم العام" من أن التعذيب سياسة منهجية للشرطة. فقَدَ وجها العدالة الثقة في فاعلية القانون، فتصادما.
حوادث تصادمهما ليست جديدة، لكن القائمين على "إدارتها" اختلفوا، من شخصيات لها رؤيتها العامة.. إلى "مدعومين" من اللانظام و"عزه" لضرب استقلال النادي والنقابة. دون أن يعي، أو "تفرق" معه، أنه يُسرع تدحرج كرة تفكك الدولة. تيار الاستقلال القضائي تبلور أصلاً حول حادث مماثل بمحكمة الإسكندرية، لكن حينها أدرك القائمون على مجلسي الفريقين، خاصة القضاة، أن التصادم مجرد عرض لمرض، هو عدم اكتمال استقلال القضاء وانتهاك الدستور والقانون. أمسك شيوخ القضاء، زكريا عبدالعزيز وهشام البسطاويسي ومحمود مكي.. وأقرانهم الأجلاء، بجوهر المشكلة، فهي ليست كرامة توأم ضد توأمه، بقدر ما هي احترام استقلاله.. والإصلاح الدستوري. حينها، اكتسب أصحاب الوشاح الأخضر مكانة فوق المكانة. هذه المرة الأمر مختلف، يخصم منها.
ضمن جبل الجليد، تردٍ مُخزٍ لمستوى التعليم عامة.. ومنه كليات الحقوق. وخلل في آلية الانضمام للمهنة الأقدس دستورياًً، كما المهن الأخرى، كشف إحدى تجلياته صراخ المحامي المتهم/ الضحية لعضو النيابة، زميله في ذات الدفعة: عاملني كويس، أنا الأول عليك.. وأنت مقبول. وخلل في الوعي بحتمية علاقتهما العضوية، التي رسختها أنظمة قضائية عديدة، حرصت على التمازج المُتجدد بينهما. هكذا نص قانون السلطة القضائية على تطعيم صفوفها دورياً بالمحامين، من أولى درجاتها حتى قمتها، حتى اشترطت المادة 47: "لا يجوز أن تقل" (حصتهم) عن الربع في وظيفة قاض ابتدائي، وعن العُشر في وظيفة رئيس محكمة ابتدائية أو مستشار استئناف. والمادة 118: "لا يجوز أن تقل (…) عن الربع في وظيفة وكيل النائب العام وما دونها". لنرى، مثلاً، المستشار زكريا عبدالعزيز ينضم للقضاء بعد عام ونصف العام من عمله بالمحاماة. وفي المقابل، آلاف انتقلوا من القضاء للمحاماة، كسعد زغلول وعبدالعزيز الشوربجي ومصطفى البرادعي. ليجتمع، قبل الثورة وبعدها، لقبا شيخ المحامين وشيخ القضاة في اسم واحد.
نصوص ملزمة، وحراك متبادل. الهدف واضح، تدفق الخبرات بين المهنتين وإقرار ببديهية التصاق التوأم، لكن النص المُلزم أُوقف عملياً منذ عام 1976. يبدو الإيقاف مثيراً للتساؤلات مع شكوى القضاة من حجم العمل الملقى عليهم، وهم محقون. فمقارنة بفرنسا، أقرب النظم القضائية إلينا، تبلغ نسبة القضاة إلى كل مائة ألف مواطن (41.77) قاضياً، بينما هي في مصر (27.76)، فضلاً عن انضباط منظومة التشريع الفرنسي والتنظيم الفعال لآلية التقاضي وتطبيق القانون. المدهش أنه منذ بداية الثمانينيات، شهدنا توسعاً في قبول ضباط الشرطة، تحت بند "عمل يعتبر (..) نظيراً للعمل القضائي".
تعددت أسباب انهيار منظومتنا القانونية، لكن جذرها واحد.. تفكك الدولة. معه توقع كل شيء، حتى صدام.. التوأم السيامي. وحين يتقاتل "مع نفسه"، تأكد أن تفسخ الدولة وصل قاعه، وعلى من يهمه الأمر مد يده لاستعادة تماسكها.