علماني وليبرالي.. وداعية بقلم محمد طعيمة
لم يقل أيهما: “تفسيري” للنص كذا، أو: أنا أميل لرأي فلان. كلاهما تحدث باسم الدين. من قبل، وببرنامج (مانشيت) رفض رجال الأعمال (نجيب ساويرس) حكم الإدارية العليا بالزواج التاني
، مُحذراً: "ما حدش يتدخل في دين التاني"، مضيفاً: "عجبنا أو ما عجبناش.. الإنجيل بيقول كده". تجاهل نجيب، كمعظم دعاة الدولة المدنية الأقباط، أن الصراع كان بين تفسيرين لرؤية الإنجيل. الأول تبلور في لائحة 1938 ابنة "دماغ" العهد الليبرالي، الذي يحنون إليه. الثاني تبناه البابا شنودة، يقتطع آية من سياقها التاريخى والاجتماعى ليحولها لقانون، حسب توصيف فقيه اللاهوت القبطي جورج بباوي، الأقرب إلى مدرسة الأب متى المسكين.. تقدست روحه. هذا، بالضبط، ما فعلته د.سعاد صالح عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي أسسته وترعاه قطر ويقوده القرضاوي، حين قالت، أيضاً في (مانشيت): أرفض تولي المسيحي رئاسة الجمهورية، مُقتطعة الآية القرآنية من سياقها: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً".
كان الزميل (جابر القرموطي) يسألها عن انضمامها للوفد "الليبرالي" الذي يساوي بين المسلم والقبطي. وفي تداعيات رأيها تلقت (سعاد) اتصالات غاضبة من مواطنين عاديين ومن القيادي الوفدي صلاح سليمان، رفضت كلها وصف المسيحي بالكافر. الأهم هو اتصال (نجيب) ليقول لها: "أنا علماني ولست فقيهاً في أي دين.. إحنا المسيحيين منقبلش الكلام ده، من حق المسيحي يترشح للرئاسة ويبقى رئيس.. لأننا كلنا بنحمل جواز سفر مكتوب عليه مصري". اكتفت سعاد بجملة حاسمة: "متقبلوش.. بس الدين بيقول كده".
بين "الإنجيل بيقول كده" و"الدين بيقول كده"، "روح" واحدة، رغم اختلاف الدافع. روح التمترس خلف التفسير "الأضيق"، لأنه "يُميزني أكثر" عن هوية أخرى بالمجتمع. روح، في حالة أقباطنا، لم تنتبه لخلفية رد البابا على أن اللائحة صاغها مسيحيون: "دول شوية بهوات وباشاوات". هو يريدها إفرازاً لعقلية رهبانية لا تعرف معنى الأسرة ولا تعي ظروف الحياة الاجتماعية، عقلية تحتكر "صكوك" الزواج الثاني.
بهوات وباشاوات، لكنهم "قننوا" لطائفتهم كرجال قانون ولاهوت. تماماً كما صاغ رجال قانون وشريعة، بهوات وباشاوات، الأحوال الشخصية للمسلمين قبلها بعام واحد، لاجئين لفتاوى شيعية لأنها، كما لائحة 38، أكثر تيسيراً على الناس. كان عهد يترشح فيه حسن البنا، لاعباً بـ"الإسلام هو الحل"، ومدعوماً من القصر والاحتلال.. فيرسب. وُيرشح (الوفد) ويصا واصف، الصعيدي، فى دائرة بالدقهلية، بحري، حيث لا قبطى واحد, فيكتسح منافسه المسلم. وينجح (بطرس حكيم) فى المراغة بلدة أشهر شيوخ الأزهر، و(غالي إبراهيم) في البحيرة، حيث القبائل البدوية المسلمة. عهد لم يعرف التصادم بالنصوص المقدسة.
بالطبع هناك فارق في مبرر التمترس بين نجيب وأقرانه، وبين تمترس سعاد وأقرانها، مسلمين ومسيحيين. الأول لجأ إلى هوية الطائفة وتخندق خلف "توجه" في توظيف الدين يناقض معتقداته الشخصية، كرد فعل على ضغط هوية طائفية أخرى "مُستجلبة"، تنفي من تراه "الأضعف".
المثير أن هوية رد الفعل هي التي أثمرت، بعكس الهوية الضاغطة. فالأزهر مازال يعترف رسمياً بالشيعة والدروز، بينما يُكفر البابا رسمياً باقي الطوائف. ومروجو الوهابية و"إخوانهم" فشلوا في تحويل تكفيرهم للمختلفين معهم من السُنة إلى مؤسسة نفي من الدين، كما فعلت الكنيسة مع المختلفين معها من الأرثوذكس، جورج بباوي وآخرين. ولم ينجحوا في "تقنين" أي من تفسيراتهم الرجعية، بالعكس سارت أغلب التشريعات ضد سياقهم.. قوانين الطفل والختان، والخلع وإخطار الزوجة الأولى بالزواج الثاني، وتقييد الحسبة. وإذا كانت الهوية المُستجلبة قد بررت رفض قضاة مجلس الدولة انضمام المرأة إليه، كما قال المستشار محمود الخضيري، "لأن المرأة مكانها الطبيعي منزلها ورعاية أسرتها وزوجها وطاعته"، فإنها ظلت في دائرة "الرأي"، وتوقف أثرها عند تعطيل القانون.. لا تعديله. لكن هذه الرؤية الدونية للمرأة، أصبحت، بذات الكلمات، "نصاً تشريعياً مُلزماً" بمشروع القانون الموحد لغير المسلمين، الذي سيحول الأسرة القبطية إلى خلايا ألغام اجتماعية، مُحكمة الغلق. الآن يُصعد موظفو الإسلام مساعي تقنين رجعيتهم.. أسوة بالبابا. كما قالت سعاد لنجيب، وكما سيقول الإخوان مع كل نقاش قادم.
صراع هويات طائفية، انتقل بدعاة الليبرالية إلى خندق مُوظفي الدين، فكما فعل أغلبية ليبراليي الأقلية، فعل ليبراليو الغالبية. آخرها "زفة" (الوفد) فرحاً بانضمام "داعية إسلامية" تصف، بعفوية، ملايين المصريين بـ"الكافرين". لم تكن فتاوى سعاد صالح مجهولة لقيادات الحزب، فهي تلقنها لطلبتها وتنشرها في كتبها. المُدهش أنه بعد "تكفيرها" للمسيحيين، شكّل الحزب لجنة دينية لتقودها. قبلها، كانت "زفة" كامل الهيئة الوفدية لمقر البابا، لتتضامن معه ضد حكم قضائي نهائي، طبق قانوناً أفرزه العهد العابر للانتماءات الطائفية. كان تضامناً ضد الدولة المدنية.. ضد "الأجمل" في تاريخ الوفد.
تمترس "العلماني" خلف الدين.. تحت ضغط دفعه للتوحد مع الكنيسة، وتمترست "الداعية" خلف شغلتها.. الدين، وتمترس حزب الهلال مع الصليب خلف مُوظفي الدين من الطائفتين.. سعياً لشعبية وسط دماغ عام مُرتبك.
أليست هي.. نفس الدماغ؟ الفارق، فقط، في المبرر.