طفل داخل قضبان التوحد
التوحد حسب تعريف منظمة الصحة العالمية طفل داخل قضبان التوحد , التوحد حسب تعريف الجمعية الأميركية للأطباء النفسيين ومنظمة الصحة العالمية ..
" إنه اضطراب نمائي شامل ناتج عن خلل عصبي ( وظيفي ) في الدماغ غير معروف الأسباب يظهر في السنوات الثلاث الأولى من العمر تتضمن ثلاث أعراض اساسية :
– صعوبة التواصل الاجتماعي مع الآخرين وضعف واضح في التفاعل.
– عدم تطوير اللغة بشكل مناسب .
– ظهور أنماط شاذة من السلوك النمطي التكراري على أن تظهر هذه الأعراض قبل سن 3سنوات.
لقد كان حبي للأطفال وهاجسي منذ أيام الدراسة الجامعية في أن اقدم الدعم لأطفالنا عموماً وأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة خصوصاً , نظراً لما أؤمن به من إمكانية النهوض بالمجتمع وتطويره من خلال بناء أجيالاً وتربيتهم تربية سليمة وتقديم الرعاية والمحبة التي يحتاجون اليها , وكان لي الفرصة لتحقيق حلمي ومشروعي لأطفال التوحد حيث بدأت بالعمل مع أطفال التوحد , وكانت لي تجربتي الخاصة مع حيدرة ..
كان الحاضر الغائب الرافض للحضور, المتمسك بعالمه , ويقاوم أي محاولة لاقتحام عالمه الخاص .. لكني منذ اللحظة الأولى شعرت بقلبه الدافئ وعقله المشتعل بالذكاء واستطعت أن ألمس رغبته الكامنة .. وصدى صوته يطلب من أحد ما الدخول إليه وأخراجه الينا ..
ولقد كانت القدرة الالهية والعناية الكونية هي التي زرعتني في درب طفلي … وجعلني القدر معلمته.. بدأت رحلتي معه منذ ثلاث سنوات, جاءني حيدرة الى جمعية التوحد في اللاذقية حيث كنت أعمل وذلك في الشهر التاسع من عام2007 وكان عمره حينها خمس سنوات , يعاني من اضطراب التوحد.
لقد خطف قلبي عندما رأيته لأول مرة , كما خطف جميع الأنظار لما كان يتمتع من قدرات عقلية شعرت حينها أنه شعلة ذكاء تحتاج لمن يخرجها ويفجرها لتكون قوة داعمة له في حياته القادمة , ولكنه صنع لنفسه سجناً حديدياً من دون نوافذ سوى ضوء عينيه اللتان تشعان في قلبي الأمل على إطلاق سراحه من معتقل أكاد أشك في الكثير من الأحيان أنه هو الذي اختاره وبكامل ارادته , لأنه حسب قدرتي كان يمتلك القدرة على رؤية مايحيط بهذه الحياة من بؤس وحزن … كانت مجرد مشاعر تنتابني عندما أشعر بسخط وجهل المجتمع نحو أطفالناعموماً ونحوالأطفال الذين يحتاجون القليل من الرعاية والاهتمام والكثير الكثير من المحبة… كي يعيشون الحياة بكل ألوانها وأطيافها.
كانت بداية العمل مع حيدرة أصعب من الحفر في الصخر من حيث رفضه لأي محاولة للدخول اليه,كان يعاند كثيرا وكنت أكثر اصراراوبدأت بتطبيق المقاييس لتحديد الأهداف الرئيسية والحاجات المهمة للوصول الى أهم طريقة تناسبه لاقتحام ذلك العالم الجليدي .. وضعت له البرنامج التربوي الفردي وكان يشمل جميع جوانب الشخصية.
كانت المهمة صعبة وتزداد صعوبة مع الأيام لأنه أثبت قدرة عالية في التعلم والابداع في الموسيقى والرسم والغناء والكمبيوتر والرياضيات والقراءة , كانت تلك التطورات خلال أقل من عام عندها كنت قد حققت الهدف من دمجه وذلك يتطلب وجود معلمين يتمتعون بخبرة وكفاءة عالية على جميع المستويات التي تناسب ابداعاته وتفوقه لدمجه مع الأطفال العاديين وادخاله الى المدرسة؟
المشكلة الحقيقية في الجمعيات التي تعمل في هذا المجال عندما ترى طفل لديه القدرة على أن يتم دمجه مع الأطفال العاديين تقف هذه الجمعيات أمام هذه الظواهر والتصدي لفكرة الدمج " التي أؤمن انا شخصياً بإستراتيجية الدمج لتلك المواهب" من أجل التخديم على مصالحهم الشخصية والضحية هؤلاء الاطفال الأبرياء.
ومن هنا قررت أنا معلمته الخاصة مع أسرته على التصدي لموقف الجمعية الرافض لفكرة الدمج " الذي يقتل المواهب ويحرمهم من حقهم الطبيعي في الدمج " نظراً لإيماننا بقدراته الفائقة في التعليم والابداع "
تم الدمج على مسؤوليتنا في إحدى المدارس ضمن خطط علمية مدروسة جيدا بدأنا من الدمج الجزئي الى الدمج الكلي في المدرسة إلى أن وصل الصف الثالث الابتدائي , واستطعت أن أصل به إلى أن يكون من المتفوقين في صفه .
أشعر بالكثير من الفخر لأنني أسهمت معه في تغيير مسيرة حياته بأكملها وبالأخص أنها كانت تجربة ناجحة في جميع المقاييس من حيث تحقيق الاهداف والبرامج والخطط التي وضعتها له.
لقد كانت المدرسة نموذجية في جميع المقاييس المكانية والمعنوية فقد ساهم كل من فيها في أنجاح اول حالة دمج في تلك المدرسة , واليوم تتملكني سعادة عارمة لما استطعت أن أحققه لهذا الطفل والوصول به إلى الطريق السليم وشهدت بعيني ثمار جهدي عندما أرى السعادة على وجه والديه وهم يشاهدوا ابنهم يذهب إلى المدرسة ويمارس حقه الطبيعي في التعلم واللعب مع الأطفال , فكانت فرحتي فرحتين ان ادخلت الفرحة والبسمة الى قلب اسرته والثانية في تفوقه وتميزه بين زملائه ومن هنا اقدم شكري اولا واخيرا لوالديه الذين ساعداني كثيرافي انجاح مهمتي.
والآن وفي كل يوم تغمر والدته سعادة عارمة عندما تلبسه ثياب المدرسة,يغمرها الفرح لأنها تعيش في واقع لم تعطي الحق لنفسها قبل السنوات بمجرد الحلم في هذه اللحظة.
سأسمح لنفسي بالتكلم عن حيدرة :
" أقول شكراً أبي وشكراً أمي لقد منحتماني الكثير من الحب والصبر شكرا لأنكم ساعدتموني وما زلتم .. أنا هنا بفضلكم وأحبكم كثيراً ..
بماذا تنصحين الأهالي من خلال تجربتك ؟؟ أوجه نداء إلى جميع الأهالي والجمعيات والعاملين في هذا المجال وأقول :إن مشروع الدمج من أهم الخطوات المفروض تبنيها من قبل الأهل والقائمين على العمل مع ذوي الاحتياجات الخاصة , مهما كانت نوع الإعاقة ودرجتها يجب الدمج مع مراعاة الخطوات العلمية للدمج , نظراً لما يساعد الطفل على التطور الإيجابي لأن الطفل يتعلم الكثير من الأطفال أكثر مما يتعلمه من المعلمين " ..
إنني إدرك مخاوف الأهل تجاه الدمج لكن أنا مؤمنة كثيراً بقدرات وإمكانيات أطفالنا على التطور ولكن خوف الأهل يبقى المسيطر على الحالة وينقلون مشاعرهم الى أطفالهم.
دعوا الخوف جانباً وانطلقوا الى رؤية أطفالكم كما تتمنون , دعوا الخوف وابحثوا عن الحلول المناسبة والعمل المستمر وكونوا مؤمنين بأطفالكم وقدراتهم ومهما كانت المؤسسات والجمعيات التي تهتم بأطفالكم وعلى درجة عالية من الخبرات
والكوادر فهم لن يكونوا أكثر خبرة بأطفالكم,أنتم الأكثر خبرة وحرصا على أطفالكم,أنني أشد على يد كل أم وأقول ان السر الحقيقي وراء العمل الناجح هو المحبة ثم المحبة ثم المحبة.. وقاموسنا لايعرف المستحيل ..
في الختام …
من زمن يضج بالأنين والصراخ … من زمن يرشح بالظلم والقهر… إلى حيدرة .. كم تمنيت لوأني أشبهك … كم تمنيت لو أني أمتلك قدرتك .. حيدرة .. أيها الحاضر الرافض الحضور.. في كثير من الأحيان أشعر بك يا طفلي الصغير بأنك أنت الذي اخترت توحدك , عندما نبضت أول نبضة .. سمعت صراخ أبرياء ومظلومين توحدت مع ذاتك عندما شعرت ببرد هذا العالم وظلمة هذا الكون .. خذ كل مالدي .. خذ عيوني .. قلبي .. يداي .. قدماي .. وامنحني براءة عينيك وضحكة من قلبك الصافي تدهشني وأنت تكبر وتكبر.. وأحبك أكثروأكثر .. عندما أتحدث عنك يا طفلي يطول الحديث و يحلو طعم المر في فمي ..