أيكاروس: قوانين النسبية في عرض متعدد الوسائط
في عرضه الاوربي الاول شهدت صالة “رويال فيستفال هول” العرض المتعدد الوسائط “ايكاروس على حافة الزمن” المعتمد على قصة خيال علمي للكاتب وعالم الفيزياء بريان جرين، وحمل مزاوجة بين قيام الكاتب بقراءة نسخة مختصرة من قصته، على انغام موسيقى استلهمت منها وضعها المو
عزفت موسيقى العرض فرقة “لندن فيلهارمونيك اوركسترا” بقيادة مارين ألسوب، واخرج الفيلم المرافق المخرجان ال+ ال ( ال تايلور وال هولمز).
وحرص منظمو العرض الذي قدم لثلاث مرات على مدى يومين على جعله كرنفالا يحتفي بالعلم والفن والجمال، فاضافوا على هامشه معرضا شارك فيه عدد من الجامعات والمؤسسات البحثية في تقديم نماذج مبسطة لعدد من اعقد واحدث الاكتشافات العلمية وشروحات وتجارب تفاعلية تقربها الى الجميع.
العلم والثقافة الشعبية
وعلى الرغم من اعتماد العرض على قصة كتبها جرين اصلا للاطفال الا انه حرص على مخاطبة جميع الاعمار بدءا من الاطفال الذين قدم لهم مغامرة خيالية ممتعة الى الكبار الذين قدم لهم تبسيطا لاحدى اعقد النظريات العلمية في سياق درامي وموسيقي وبصري مؤثر.
أو كما يؤكد جرين نفسه في احدى مقابلاته مع مجلة نيويورك الامريكية بأنه يخاطب في كتابه مختلف الاعمار “ووجدت ان الاطفال الصغار بأعمار 4 و5 و6 سنوات قد يجدون في الكتاب قصة مغامرة ممتعة عن صبي يذهب لاكتشاف ثقب أسود، اما القراء الكبار فيمكن ان ينظروا اليه كتجسيد درامي لاحد اعمق اكتشافات انشتاين”.
وعرف بريان جرين الفيزيائي في جامعة كولومبيا بنهجة لتقريب نظريات الفيزياء المعقدة الى الناس، ونقلها من متون الكتب العلمية الجافة الى الحياة اليومية وتقديمها بقوالب وصيغ مبسطة تدخل في صميم الثقافة الشعبية، اذ عرف بكتابه الشهير ” الكون الرائع” الذي شرح فيه نظرية الأوتار في الفيزياء ووظل من أكثر الكتب جماهيرية ومبيعا. كما كان أحد مؤسسي “مهرجان العلم العالمي” الذي مزج المناقشات العلمية مع ثقافة البوب والعروض الراقصة واستضافة شخصيات شعبية شهيرة لكسر الحواجز بين العلم وحياة الناس وثقافتهم الشعبية.
الزمن والجاذبية
سعى جرين في عرضه الى خلق اسطورة معاصرة تجعل من الحقائق والنظريات العلمية مادة سردها، ومن غرائبيتها مادة تخيله الروائي وسر جذبه لمتلقيه، ولم يكتف بذلك اذ أنه في “ايكاروس على حافة الزمن” يلجأ الى إعادة كتابة الاسطورة اليونانية القديمة :ايكاروس” ولكن بلغة هذا العصر ومصطلحاته العلمية.
واذا كان ايكاروس الاسطورة قد طار بأجنجة من ريش وشمع، وتمثلت خطيئته في نسيانه لأثر حرارة الشمس التي اذابت اجنحته، فأن الاجنحة لدى جرين تصبح مركبة فضائية والشمس تستحيل إلى ثقب اسود، وخطيئة ايكاروس المعاصر نسيانه العلاقة بين الزمن والجاذبية.
تقوم حبكة القصة على صبي تأخذه الرغبة في الاكتشاف إلى عصيان تحذيرات وأوامر والده والانطلاق بمركبته الفضائية مقتربا من ثقب اسود في المجرة، وعندما ينجح في مغامرته في الاقتراب من حافات الثقب الاسود “وليس مركزه الذي يبتلع كل شيء”، يكتشف خطيئته في نسيانه العلاقة بين الزمن والجاذبية، ففي الوقت الذي اعتقد انه قضى ساعة او ساعتين في مغامرته، كانت المسافة بينه وبين والده آلاف السنوات.
واذا كان الكثيرون ينظرون الى أدب الخيال العلمي بوصفه نوعا من الاسطورة المعاصرة، حين يدفع بالعلم الى حافة الخيال أو يستثمر الحقائق العلمية في بناء سردي تخيلي قد يصل حد الغرائبية (الفنتازيا)، فأن طموح جرين في عمله هذا تعدى الادب الى خلق نوع من اوبرا الخيال العلمي اذا جاز التعبير في تسخيره لفنون ووسائل تعبير مختلفة لانجاز مشروعه، نعني الموسيقى والسينما والالقاء المسرحي لتجسيد النص السردي الخيالي الذي كتبه.
علماء في الأوبرا
وقد وجد الموسيقار فيليب جلاس في نص جرين، محفزا لتقديم نصه الموسيقي المرافق الذي جاء مع نهج عرف به جلاس في استثمار تخوم العلم مادة لتعبيره الموسيقي، كما هي الحال مع اوبراته الشهيرة “آينشتاين على الشاطئ” و “غاليلو غاليليه” او “كيبلر”، تلك الأعمال التي جعلت من علماء فيزياء او رياضيات ابطالا لها.
بدأت شهرة جلاس في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات مع النهج الموسيقي الذي عرف باسم “المينيمالزم” (يترجم الى العربية باسم التقليليلة او الأدنوية او الاختزالية” وهو نهج انتهجه بعض الفنانين في الفنون البصرية والموسيقى بعد الحرب العالمية الثانية واشتهر في امريكا في الستينيات يقوم على اعتماد البساطة والتعبير بالعناصر الاساسية.
وانتشر مع اعمال موسيقيين امثال لا مونت يونج، تيري ريلي ، ستيف رانج وفيليب جلاس وجون آدامز. وعرفت باعتمادها على الحد الادنى من الجمل الموسيقية دون افاضة، وعلى استخدام التكرار كعنصر اساسي في التعبير الموسيقي وعلى استثمار امكانات اللانغمي في البناء الموسيقي .(لم تبق الحركة عند حدود ذلك بل قدم رموزها تطويرات لاحقة إلى أسلوب يشتمل على مجال لحني وتناغمي واسع قادر على على احتواء شحنة تعبيرية عالية).
سمع وبصر
وعلى الرغم من شهرته كأحد رموز “المينيماليزم” في الموسيقى الا ان جلاس لا يميل لاطلاق هذه التسمية على موسيقاه ويفضل ان يصف نفسه بأنه مؤلف “موسيقى ذات بنى متكررة” ،ويصف اعماله المبكرة في سيرته في موقعه بأنها تكرارات ممدودة لقطع ميلودية تتماوج داخلة وخارجة ضمن نسيج سمعي.
ويصب “ايكاروس على حافة الزمن” ضمن نهج اشتهر به جلاس يقوم على مزاوجة الموسيقى مع نص بصري (سينمائي في الغالب) واكتشاف جماليات الانسجام والتوافق والاختلاف بينهما، منذ تجربته الموحية مع المخرج جيفري ريجيو في فيلم “كويانسكاستي ” (كلمة مشتقة من احدى اللغات النادرة تتكلمها مجموعة قليلية من الهنود الحمر)، التي فتحت الباب لأفق فسيح لربط التعبيرين الموسيقي والبصري ،عمقاها في فيلمين لاحقين، وقلدها مخرجون آخرون في افلام لاحقة.
واهتم جلاس في جعل موسيقاه في قلب الفنون الادائية سواء في موسيقاه المرافقة للاعمال المسرحية التجريبية او موسيقاه التصويرية للافلام السينمائية ومن أشهرها “فيلم الساعات” الذي نال عنه جائزة البافتا ورشح لنيل اوسكار افضل موسيقى تصويرية، وفيلم “كوندون” للمخرج مارتن سكورسيزي او موسيقاه المميزة للمخرج التسجيلي المعروف ايرول موريس.
وفي موسيقى ” ايكاروس على حافة الزمن” استخدم جلاس عدداً من لمساته المعروفة المعروفة، مثل تكرار النوتات الوترية وتوقيع النغمات على وتر واحد بشكلٍ متعاقب ومتسارع ،والاستفادة من الحرية الكبيرة التي يوفرها كسر ماهو نغمي التي باتت سمات اساسية تميز موسيقى جلاس وتطبع اسلوبه الموسيقي.
الفيلم والموسيقى
بين زحمة وسائط التعبير وتنافسها او تكاملها في تقديم هذا العرض متعدد الوسائط المميز بدا النص البصري (الفيلم السينمائي ) الاضعف بين عناصر التعبير المختلفة تلك، اذ بدا مخرجا العرض يلهثان في ملاحقة الفضاء التجريدي التي تجري فيه الاحداث وايجاد مقابلات بصرية له.
على العكس من تجربة المخرج “جيفري ريجيو” مع موسيقى جلاس في ثلاثيتهما التي اشرنا اليها سابقا، حيث بدت الصورة تقود الموسيقى وتتناغم معها في نص سمعبصري مميز، بدا مخرجا فيلم “يكاروس على حافة الزمن” موزعان بين التعبير التجريدي واستخدام العناصر البصرية كاللون والشكل ضمن بناء هارموني يترسم آليه التعبير الموسيقي (التجريدية اذا جاز التعبير) -بلغ هذا الاستخدام ذروته في مشهد ابطاء الزمن على حافات الثقب الاسود- وبين التشخيص ومحاولة ترسم النص السردي واحداثه اذ بدت خياراتهم محدودة ربما وحلولهم فقيرة ربما لاسباب انتاجي.
وبدت مشاهدهما بسيطة ومختزلة ازاء ما نراه في افلام الخيال العلمي الضخمة ذات الميزانيات الكبيرة.
والثنائي الاخراجي الذي يرمز له بـ “أل +أل” يمثل المخرجان ال هولمز وأل تايلر وهما من مواليد 1971 وتربيا في مانشستر، التقيا في تسعينيات القرن الماضي، وعملا معا في أواخرها في عدد من أعمال التحريك (الرسوم المتحركة) لحساب مجلس الفنون الانجليزي والقناة التفزيونية الرابعة، وعرفا باستخدام تقنية الكومبيوتر ومزاوجة التمثيل الحي مع بيئة ثلاثية الابعاد منفذة عبر تقنيات الكومبيوتر.
في عام 2008 اقاما معرضا شخصيا لاعمالها التي عرضت لاحقا في عدد من المتحف والصالات الفنية العالمية ونالا جائزة ليفربول للفنون عام 2009 .
لاشك ان مثل هذا العرض متعدد الوسائط يفتح اوسع الابواب امام تلك المزواجة بين العلم والفن، فضلا بين الفنون المختلفة انفسها ووسائط التعبير المتعددة، وهي سمة اساسية وفرها التطور التكنولوجي المتسارع والمطرد الذي سهل كثيرا المزج بين وسائط التعبير المتعددة ضمن بيئة تفاعلية تمثل مدخلا اساسيا لفنون المستقبل.