طالبان والقاعدة.. فضاء يختزل نفسه بقلم : مأمون شحادة
ما إن انسحب الجيش السوفييتي من أفغانستان، حتى أخذ أخوة السلاح بالتصارع على السلطة، من ضمن حلقة تضم العديد من الحركات المسلحة، حتى تم اختزال تلك الحلقة الى تحالف يضم قوى الاعتدال البراغماتي الإسلامي بقيادة أحمد شاه مسعود، وحركة طالبان بقيادة الملا محمد عمر
، المتشكلة من قوى التشدد السلفية، ليدخل الطرفان في اختزال إيديولوجي كل يريد إقصاء الآخر.
يتضح من ذلك أن مقاومة الاحتلال السوفييتي في إفغانستان كانت الواجهة العلنية التي يتحد عليها هؤلاء المجاهدون.. ومع انتهاء هذا الوجود، ظهرت ومن تحت رماد تلك الحرب إيديولوجيا تنادي بالاعتدال، ما أدى الى اندلاع صراع فكري ما بين هذه الإيديولوجيات، ما يعني أن المجاهدين الأفغان لم تكن لديهم رؤية مستقبلية واضحة يفسرون من خلالها مفهوم السلطة، فيما لو انسحبت القوات السوفييتية من أفغانستان، إنما كانوا يحملون تناقضات داخلية انفجرت مع انتهاء الوجود السوفييتي ما بين الاعتدال والتشدد.
إن فضاء الاعتدال لم يكن أفغانياً فقط، إنما تجسد حقيقة بين المجاهدين العرب، وعلى رأسهم الأب الروحي عبدالله عزام، المعلم الأول لأسامة بن لادن، حيث أخذ التنافر بينه وبين بن لادن بخروج القوات السوفييتية من افغانستان، حينما أوقف عزام الأعمال العسكرية، وترك إدارة البلاد لأهل افغانستان، قائلاً لأسامة (طبقا لرواية حذيفة ابن عبدالله عزام): «نحن جئنا من أجل خدمة الأفغان، نترك القيادة لهم وإدارة شؤون بلادهم، ونساعدهم بما نستطيع»، كإشارة للمساعدات الإغاثية (الطبية والتعليمية)، إلا أن بن لادن رفض ذلك معلناً تأسيس تنظيم عسكري متشدد أطلق عليه اسم «القاعدة»، ليتبين أن العامل الرئيس الذي كان يوحدهم، هو الاحتلال السوفييتي، وبخروج السوفييت انشطرت المعادلة بين اعتدال عبدالله عزام، وتشدد أسامة بن لادن.
فالمعضلة لم تنتهِ بتلك «الدفويكا» المتشددة (القاعدة وطالبان أفغانستان)، بل ازدادت تشعباً وتجذراً بظهور حركة طالبان (باكستان)، ما أدى الى تشكل «ترويكا» جهادية متشددة، تبتغي الخلافة والحكم الشرعي.. ولكن هناك بعض الاختلافات فيما بينها، فطالبان (أفغانستان) حنفية المذهب، باشتونية القومية، وتحمل إستراتيجية حربية محصورة ضمن الحدود الإقليمية لأفغانستان.
أما القاعدة فهي حنبلية، متعددة الجنسيات والثقافات، وتحمل إستراتيجية حربية عابرة للحدود.
أما طالبان (باكستان) فإنها مماثلة لطالبان أفغانستان بالمذهب، والقومية، والإستراتيجية، ولكن في أواخر 2008 تشعبت إستراتيجيتها الحربية مهددة بتنفيذ عمليات انتحارية خارج إطار حدودها الإقليمية، ما يعني أن هناك تغيراً إستراتيجياً من ضمن العمل الإقليمي مع طالبان (أفغانستان(، يحذو حذو العقيدة الحربية لتنظيم القاعدة.
فما أشبه اليوم بالبارحة، وكأنها صورة كربونية عن الماضي، فالذي وحّد الساحة الأفغانية باختلافاتها، واعتدالها، وتشددها سابقاً هو الاحتلال السوفييتي. أما الذي يوحد الترويكا الثلاثية (القاعدة وطالبان أفغانستان وطالبان باكستان) مقاومة الاحتلال الأميركي، ولكن هل ثمة اعتدال برغماتي بين الترويكا الثلاثية في ظل هذا التوحد؟
نعم ثمة اعتدال، فقد ذكرت التقارير أن عبدالله أنس، أحد المجاهدين العرب في فترة الاحتلال السوفييتي، وزوج ابنة عبدالله عزام، صرح بوجود الكثير من المعتدلين في طالبان (أفغانستان)، وهو يراهن عليهم مستقبلاً في تسوية القضية الأفغانية، داعياً الى فصل القاعدة عن طالبان، إضافة الى قرار لجنة العقوبات في مجلس الأمن شطب خمسة من قادة طالبان (أفغانستان) من لائحة الإرهاب، تماشياً مع النداءات السياسية الأخيرة المبنية على قاعدة الحل السياسي الحتمي، وتقاسم السلطة… وما خفي أعظم.
من الواضح جلياً أن حركة طالبان (أفغانستان) تسكن في جوفها إيديولوجيا معتدلة، الأمر الذي حدا بتنظيم القاعدة الى إعادة هيكلة وجوده، وبناء قواعد له تتجه نحو طالبان (باكستان) في المناطق القبلية الشمالية الغربية على الحدود مع أفغانستان، في تفسير يشير إلى اهتزاز العلاقة الفكرية بين طالبان (أفغانستان) والقاعدة، برغم المبايعة التي أعطيت للملا عمر تحت اسم أمير المؤمنين، إلا أن مقتل «المتشدد» بيت الله محسود، زعيم تنظيم طالبان(باكستان)، ولّد مخاوف «وجودية» لدى ابن لادن إثر التصارع المسلح على خلافة محسود، بين قادة طالبان (باكستان)، فقيه محمد، وولي الرحمن، وحكيم الله محسود (المتشدد) الذي ولّي بالقوة خليفة لبيت الله، ما يعني أن هذا التصارع، ربما سيؤثر على وجود القاعدة (باكستانياً) لأنها ترفض الدخول من ضمن ما أسمته «الفتنة». فهذا ما حدث للقاعدة في مطلع عقد التسعينيات، حينما توجه أسامة بن لادن الى السودان واصفاً ما يحدث في افغانستان آنذاك من تقاتل على السلطة بـ«الفتنة»، فهل سيحدث ذلك للقاعدة مرة اخرى، كما حدث لها مطلع التسعينيات؟
وبما أن حكيم الله محسود معروف بتشدده ورفضه لخط الاعتدال، أخذت القاعدة تعمل على تثبيت حكمه. فالمؤشرات تشير إلى أن العملية الأخيرة التي قام بها همام البلوي ضد القاعدة الأميركية تحمل بصمات «تخطيط» تنظيم القاعدة، وما جلوس حكيم الله محسود بجانب البلوي (ضمن الشريط المصور) إلا «سياسة تثبيتية» لمحسود، الهدف منها تخفيف حدة التوتر بين المتصارعين على «الخلافة»، وتثبيت لخط التشدد في مواجهة الاعتدال.
يتبين من ذلك أن الترويكا الثلاثية سابقة الذكر قابلة للانقسام، والانشطار، والتشظي في أي لحظة ممكنة، بسبب الكثير من الاختلافات والصراعات على السلطة فيما بينهم، ففضاء إيديولوجيتهم تدور فيه أهداف متشعبة عدة، ولكن من ضمن مفهوم يرتكز إلى دائرة الاختزال الإقصائي لتداول السلطة.
مقال اكثر من رائع…. والاستشراف المستقبلي الذي قدمه المقال اصاب بدقة