مخاوف الولايات المتحدة من تداعيات السياسة الخارجية التركية .. بقلم هشام منور
شكلت المواقف التركية الأخيرة من الممارسات الإسرائيلية في المنطقة، وبالذات تجاه الفلسطينيين، على إثر الاعتداء على متضامني أسطول الحرية المدنيين، ومقتل عدد من الأتراك المشاركين منهم، نقطة تحول في الموقف التركي من قضايا المنطقة ..
وبالذات من الدعم الغربي لإسرائيل وانحيازه لها. فقد طالب (فيليب غوردن) كبير مستشاري الرئيس الأميركي (باراك أوباما) لشؤون أوروبا تركيا بإثبات التزمها بشركاتها الإستراتيجية مع الغرب، وبينما حذر غوردن من أن توجهات أنقرة الخارجية تثير حفيظة الولايات المتحدة، وصف سفير تركيا في واشنطن هذه التصريحات بأنها غير عادلة وتنم عن سوء فهم لتوجهات أنقرة. فإلى أي حد يخفي هذا التحذير الأميركي مخاوف واشنطن، وربما رفضها، لسياسات تركيا الخارجية؟ وهل بوسع أنقرة الدفاع عن توجهاتها الجديدة والموازنة بينها وبين شراكتها مع الغرب؟.
توجهات السياسة الخارجية التركية "الجديدة" لا يمكن إهمالها أو التغاضي عنها من قبل الغرب، على أقل تقدير، والجدل المثار حولها يشغل المشهد الإقليمي والدولي في البحث عن بواعثها ومراميها، فهي بالنسبة للبعض محل ترحيب وتشجيع، وللبعض الآخر مثار خشية وقلق، وإذا كان هذا القلق قد طرق أسماع قادة تركيا الجدد منذ فترة على ألسنة بعض خبراء الغرب ومراقبيه فإنه يصلها هذه المرة بلسان بعض من مسؤوليها.
السفير التركي في واشنطن وفي سياق لقاء على هامش قمة العشرين في كندا يجمع الرئيس الأميركي برئيس الوزراء التركي لتوضيح مواقف أنقرة حول عدد من القضايا التي يبدو أن في واشنطن من يريد توريط أنقرة بها، رأى أن هذه المواقف مفضوحة ومسيرة من قبل بعض اللوبيات للمصالح التركية في واشنطن، وفي سابقة نادرة من نوعها، حذر أحد كبار مستشاري الرئيس الأميركي تركيا من مواقفها تجاه ملف إيران النووي، ومن التدهور المستمر في علاقاتها مع "إسرائيل"، وطالب المسؤول الأميركي الرفيع أنقرة بإظهار التزامها بالشراكة مع الغرب، إن هي أرادت دعم واشنطن للمواقف التركية مستقبلاً، لم يوضح المسؤول الأميركي ما هي الملفات التي ستحجم واشنطن عن دعم أنقرة فيهاـ لكن المعروف أن تركيا ليس لديها في الوقت الراهن ما تحتاج الدعم الأميركي فيه غير ملفي حزب العمال الكردستاني ومساعي انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
التصريح الأميركي يعد تحولاً في مواقف واشنطن الرسمية التي كانت حتى وقت قريب تلوم أوروبا وليس تركيا في ما تسميه انحراف أنقرة بعيداً عن الغرب، على الرغم من أن فتوراً واضحاً قد اعترى علاقات البلدين في الفترة الماضية إلى درجة توجيه نواب أميركيين جمهوريين وديمقراطين رسالة إلى الرئيس الأميركي طالبوه فيها باتخاذ مواقف صارمة من تركيا ومعاقبتها خاصة على مواقفها من "إسرائيل"، رسالة النواب لا تمثل سياسة واشنطن الرسمية القائمة على حرص مطلق على العلاقة مع أنقرة، كما أعلنته الإدارة الأمريكية، وقد استند أصحاب التفسير الواثق من حرص أميركا على علاقاتها بتركيا، إلا أن واشنطن سبق وتغاضت عن قرار أنقرة منعها استخدام قاعدة أنجرليك وهي في أشد الحاجة إليها عند الإعداد لغزو العراق عام 2003، ويرى المراقبون أن تركيا إنما تدفع ثمن مواقفها الأخيرة من "إسرائيل"، وأن الحديث عن اعتراضها على قرار العقوبات الأخيرة ضد إيران ما هو إلا غطاء لموقف أصدقاء "إسرائيل" في أميركا الذين يبدون في هذا الوقت حريصين على تنفيذ وعيد رفعه في وجه أنقرة وزير الخارجية الإسرائيلي حين اتهم تركيا بأنها تتجه نحو التطابق مع المواقف الإيرانية في مواقفها من تل أبيب، وهو ما حذرها من أنها ستدفع ثمنه وشيكاً بما يشبه عزلة إيران، على حد قوله، إن هي تمادت في هذا الاتجاه.
ومرد القلق الكبير في الدوائر الأمريكية ينبع من قرار تركيا الأخير على الساحة الدبلوماسية في مجالين هما موقف تركيا حول العقوبات المفروضة على إيران، والثاني ردود فعل تركيا إزاء أسطول الحرية، لأن الولايات المتحدة ما تزال تنتظر أدلة ولكنها تقلق من الكلام الذي سمعته. فقبل فترة وجيزة، كان وزير الدفاع روبرت غيتس يتحدث بنوع من التفهم لسياسات أنقرة وكان يلوم أوروبا نوعا ما، إلا أن مصدر الشعور بالخوف والإحباط إزاء تركيا من قبل الولايات المتحدة يتعلق بشكل رئيسي بموقفها من إيران، وقبل التصويت على مسألة العقوبات على إيران اعتبرت الولايات المتحدة موقف تركيا المهدد بالتغيب أو عدم المساهمة في التصويت بمثابة اعتراض على التصويت، أما مسألة أسطول الحرية، فرغم أن الولايات المتحدة حذرت تركيا أنه ليس من الجيد إرسال سفن في هذا الوقت، ثم حصل الهجوم عليها والخسائر البشرية الكبيرة، وهو ما أدى إلى تفاقم الأمور.
تصريحات فيليب غوردن كبير مستشاري الرئيس أوباما لأوروبا أثارت بطبيعة الحال بعض الردود التركية منها موقف نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم حسين تشيليك. فقد اعتبر المعايير الغربية من معايير الحياة في تركيا، واقتراب تركيا من العالم الإسلامي لا يعني ابتعادها عن الغرب، والاقتراب من آسيا لا يعني الابتعاد عن أوروبا، وعضوية منظمة المؤتمر الإسلامي لا تعني التخلي عن عضوية حلف الناتو، فسياسة تركيا الخارجية تعتمد على التوازن وعلى مبدأ المعاملة بالمثل المعتمد في العلاقات الدولية وعلى مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.
والحال أن تداعيات تغير السياسة الخارجية لتركيا قد تزيد في المستقبل من حنق الغرب على توجهات تركيا نحو الاندماج مع محيطها الإقليمي والتأقلم معه، سيما أن منعكسات هذا التغير سوف يمس "إسرائيل" واللوبي المتعاطف معها، وهو ما يرشح علاقات الغرب بتركيا إلى مزيد من التأزم، ما لم يراعي الغرب مصالحه في المنطقة وابتعاده عن الانحياز الأعمى لإسرائيل.