فن لجسد لقيط بقلم : حسان عبداللطيف اسماعيل
أبدأ نقدي بالسؤال الوهلي والعفوي الذي يقفز داخل الذهن ويتشعب، عند رؤية عمل الفنانة الفرنسية( أورلان ) التي ذهبت بعيدا في جسدها قبل أفكارها السؤال هو : هل تستحق الفكرة، مهما كانت عظيمة، بأن يخاطر الفنان بجسده من أجلها؟
وهل الفن دينٌ شخصي أوعقيدة تجعل من الفنان أن يقدم أعضاءه قرابين على مذبح معبده؟؟؟ هل من الممكن أن يقود الإيمان بالفن ودورِه في العالم الفنانَ لأن يقدم حياته قربانا؟؟؟ هل ينتظر فنان كهذا أن ننظر إليه كنبي مرسل ، في الوقت الذي أسقطت فيه الحداثة عن الفن أقنعة القداسة والطاووسية، وقد أنزلت الفنانَ من السماء إلى أرض الواقع، بتفاصيله الباهتة والرخيصة جدآ؟ في الأخير، وهو السؤال الأهم عندي : ما هي نوايا الفنان التي يضمرها ؟؟؟
إن كان فنان الدادا الشهير مارسيل دوشامب قد خطا بالفن خطوة في فراغ بلا حدود، عندما أسس لمفهوم الفن الجاهزreadymade ) ) (أيّ شيء يلتقطه الفنان ويقرر أنه فن، من دون أن يضيف عليه أو يحذف منه: فإن أول وأهم خطوة قامت بها الفنانة أورلان، هي أنها قررت أن جسدها هوعمل فني جاهز! لكنها لم تتوقف عند هذه الفكرة التي تجعل من جسدها نحتا نابضا في فاترينة الدنيا، بل انها جعلت من هذا العمل الفني اللقيط الجاهز أقصد ( جسدها ) جعلته مادة قابلة لصياغات ولتحويرات متنوعة، من خلال جراحات تقويمية عديدة،كانت قد شكّلتها محاور أفكارها الرافضة فكرة قبول الطبيعة كما هي والاستسلام لورقة اليانصيب التي وزعها علينا القدر ! حيث تنبش أفكار أورلان في الجسد , الهوية، الجنس، الذكورة، الأنوثة، الأخلاق، مكانة الجسد في المجتمع… والنسوية بشكل خاص، من خلال أداء وعروض البيرفورمانس، والذي عرّفته،( أقصد عملها ) بأنه “فن جسدي“…
ولكي نقترب، أو ندخل في صميم عملها مباشرة، دعونا ننظر في عملها المتأخرقبل المتقدم ، وذلك في بداية التسعينات، (“تناسخات القديسة أورلان” )هو اسم لعملها الأكثر شهرة والكنه الأكثرغرابة؛ حيث فيه أخضعت الفنانة نفسها لسلسلة من العمليات الجراحية التقويمية، لتستنسخ من نفسها كائنا جديدا! فهذا الكائن الجديد كانت قد جمّعته أو حددته من خلال المقاييس الجمالية السبعة و الأشهر في تاريخ الفن، منها : جبهة الموناليزا لدافينشي،و عيون ديانا كما صورها رسامو الفونتينبلو، وأنف الروح كما رسمها جيروم، وشفتا أوروبا كما رسمها فرانسوا بوشى،و ذقن فينوس التى رسمها بوتتشيللي.و إلى جانب النظام الجمالي الذي تمثله هذه النماذج، والذي هو تصوّر أو اقتراح ذكوري أنه يطوي، في ثنايا ما يطويه، نظرة الرجل إلى المرأة كشيء أو كموضوع للمتعة، ثمة أيضا البعد الأدبي المرتبط بالروايه أو الأسطورة: الموناليزا كمعيار للجمال؛ ديانا كتابع للآلهة والرجال، لكنها زعيمة الآلهة والنساء؛ الروح لهشاشتها وقابليتها للكسر؛ فينوس كرمزمن رموز الجمال الجسدي؛ أوروبا لوجهة نظرها المغامرة نحو الأفق والى المستقبل.
لكن إلاماذا تريد أن تصل الفنانة في محاولتها لخلق وجهها من جديد في مقاييس الجمال تلك؟ إن لصق أجمل أنف تحت أجمل جبهة بين أجمل عيون فوق أجمل فم أعلى أجمل ذقن وفي أجمل جسم، ليس بالضرورة أن ينتج عنه أجمل كائن، بل لربما العكس هو الصحيح، و بالفعل هو ما كان. برغم أن هذه الفكرة ليست بنات أفكار أورلان تماما، حيث سبقها بعصور، فنانيين أتيا بأفكارهما الفنية على هذا النسق الجمالي التجميعي : الرسام الإغريقي زيوكسيس، وفنان عصر النهضة ليوناردو دافينشي، اللذان استنبطا السمات الأكثر مثالية لنماذج مختلفة ودمجاها في واحد، إلا أن عمل أورلان يذهب إلى الطرف النقيض من فكرة من سبقاها.حيث انها أرادت أن تثبت بأن نموذج الجمال الأنثوي، كما يصوره الفنان الذكر، مستحيل التحقق؛ أرادت أن تسحق المفاهيم والمقاييس الذكورية؛ كما أنها أرادت أن تدوس على تاريخ العالم كله : من مسلّمات إلى الرضوخ وإلى استعباد. كما انها أرادت أن تدوس على قوانين الطبيعة والبيولوجيا والوراثة والنوع/الجيندر: “عملي كفاح ضد الفطريين، العنيدين، المبرمجين، الطبيعة، الدي إن إي، وضد الله عزوجل!… هنا تريد ان توصل لنا فكرة لتقول يمكنني ببساطة وبلا معاناة أن أنظر لحمي يُشقّ، وأن أنظر بعيني على أحشائي،و أن أنظر إلى قلب حبيبي، تصميمه الرائع لا علاقة له في هذه العاطفية الركيكة… “! فهل كان سوبرمان نيتشه النموذجَ الذي سعت إليه هذه الفنانة وأرادته؟
فهذه السلسلة من العمليات الجراحية التقويمية كانت هي البيرفورمانس نفسه. حيث كان يُنقل حيا مباشرة عبر الأقمار الصناعية لكي يشاهدها العالم، كما كانت تقنية البث مزودة بخاصية تفاعلية، حيث تقوم أورلان بالرد على أسئلة المشاهدين، بينما المباضع والمناشير والشفاطات والإبر والملاقط تعمل في لحمها المخدر! ومن هذه العروض تخرج صور فوتوغرافية وأفلام فيديو ورسومات بالدم، كما أن الملابس والأدوات والأوعية المستخدمة وبقايا لحمها السائل ستُقتنى وتُعرض في متاحف العالم الكبيرة . لقد جهزت أورلان غرفة العمليات كمسرح سريالي بكل عناصره: بدلتها، بدلات الطاقم الطبي، وضع الكاميرات التي تصور… يُخدر الجزء أو العضو الذي تجري فيه الجراحة تخديرا موضعيا، بينما الفنانة حاضرة بكامل وعيها ولا مبالاتها بالمجزرة التي تحدث فيها، وهي تمسك بكتاب وميكروفون وتقرأ بصوت عال نصوصا وأشعارا، على خلفية من موسيقى مختارة بعناية: “عزيزي، أحب طحالك، كبدك؛ أعشق بنكرياسك، وخط عظم فخذك يثيرني…ووو”!
فهذا فنّ أورلان الجسدي لا يرغب الألم، ولا هو مأخوذ بالتنقية وليست البلاستيكية غايته. إنه بالأحرى ضغط بقوة على زر الإرادة! إرادة خلق الشكل والهوية، والرفض تحديدا: “يتفق كل من الدين وعلم النفس على مقولة أن الشخص لا يجب أن يحارب الجسد والطبيعة، أن يقبل ويقنع… هذه مفاهيم خاطئة، قَبلية، بدائية. ما زلنا مقتنعين بأننا يجب أن ننحني أمام قرارات الطبيعة. هذا اليانصيب من الجينات وزّع بالصدفة“. فعملها يهدف إلى إثارة نقاشات شمولية. إنه خلخلة لكثير من القناعات العامة: “ وهنا الفت الأنتباه عملي ليس ضد الجراحة التجميلية، لكنه ضد معايير الجمال المعتمدة، ضد قواعد وعقائد مهيمنة ومعجبة بنفسها كثيرا، تمارَس على الأنثى“. أورلان تريد أن تربط الجسد الداخلي بالجسد الظاهري، أن توحّد المتناقضات والأقنعة في ملامح وجه يذهب إلى الأبعد! ولكن دعونا نعلم من هي صاحبة هذا الوجه، فمن تكون أورلان؟
لا تستعمل أورلان اسمها الأصلي فهي انتحلت اسم أورلان، الأمر الذي يتجانس مع منطقها الجسدي التناسخي الاختياري الإرادي. أما الشخص فيها ، وتاريخه، فقد أرادته أن يبقى غامضا مبهما، ذلك ظناً منها أن سريّتها هي التي تسلط الضوء عليها وتُبقي نجوميتها كأيقونة ثقافية، ولربما أيضا لإدراكها أنه لا شخص محددا هناك، أو أن فكرة الشخصية ليست سوى وهم! من هي واين ولدت دعونا نتوقف قليلآ لنوضح حقيقتها أكثر ولدت أورلان في عام 1947 في “سان اتيان“، تعيش وتعمل بين لوس أنجلوس، نيويورك، وبين باريس. وفي 2006 تلقت دعوة كعالمة باحثة مقيمة في مؤسسة جيتي البحثية بلوس أنجلوس. اسمها ضمن لوحة مديري “الباليز دي طوكيو” في باريس، كما هي أستاذ في المدرسة الدولية العليا للفنون الجميلة بمدينة سيرجى بفرنسا. وفي عام 1971 عمّدت نفسها “القديسة أورلان“، ارتدت بدلة من خامة الفينيل أو الجلد الصناعي، بالأبيض والأسود، كنوع من نحت معاصر، يلامس التضاد اللوني فيه، النظرة المنافقة للمجتمع في تصنيف الأنثى إما مادونا . مؤخرا بدأت في ارتداء ملابس على طراز الباروك المبالغ فيها، عبر سلسلة من العروض البيرفورمانس، استقت مفرداتها من نماذج من تاريخ الفن وأيضآ من الأساطير والرموز الدينية، حيث وجدت أورلان خيوطا وعلائق بين جماليات التأسي ومصادر الممارسات الفنية المعاصرة.
وفي تلك العروض أكدت أورلان على ثنائية الداعر والمقدس المستحكمة منذ قرون وعصور. فهاهي تصور نفسها على شاكلة تمثال القديسة تيريزا، الذي أنجزه برنيني في القرن السابع عشر،ولكن أورلان كانت كاشفة عن أحد نهديها. أخي القارئ القديسة تيريزا في التراث المسيحي تجسّد، كما رابعة العدوية في التراث الإسلامي، الجمع بين عنصري القداسة والنشوة (النشوة بمعنييها الحسي والصوفي). والنهد الواحد المكشوف حيث يحيل على فكرة نسوية ثورية، إذ يستدعي أسطورة محاربات الأمازون، اللواتي شكّلن خطرا حقيقيا على الإمبراطورية الإغريقية. حيث كانت الفارسة منهن تقطع أحد نهديها حتى لا يعوقها في رمي الرمح. أولئك الفارسات ضحّيْن بأنوثتهن وبالحياة الواعدة الوادعة من أجل انتزاع حقهن في الكرامة والمساواة مع الرجل. وكنّ، كي لا ينقرضن، يضاجعن الرجال الغرباء، وحين يكون المولود أنثى يحتفظن به، وإن كان ذكرا يقتلنه، أو يرسلن به إلى أبيه، حسبما تقول بعض الروايات.
في 1977 قامت أورلان بعرضها “قبلة الفنان“، وفيه وقفت خارج الجراند بالايز، جنب صورة بالحجم الطبيعي لجذعها الذي، جعلته ماكينة تعمل بالنقود، عرّفته هي كجسم آلي لبيع القبلات. فالزبائن الذين يدخلون خمسة فرنكات في بين النهدين، يمكنهم أن يراقبوا قطعة العملة تنزلق عبر أنابيب إلى الأسفل، هنا تقفز الفنانة من مكان وقوفها لتكافئ المشتري بقبلة حقيقية. دعّمت أورلان “قبلة الفنان” بنصوص كتبتها بالتعاون مع هيبرت بيساسير. هذا العرض الفضيحة، حيث غرست الفنانة إصبعها في دمل مجتمع الأمهات والتجار والفن والدعارة، وهبها اسما في عالم الفن، بسبب ردود الفعل العنيفة التي قوبل بها، السلبية والإيجابية على حد سواء. بعد هذا، ارتدت باروكة عروس فرنكنشتاين، لتدلل على أن الجمال الأنثوي مصنوع من قِبل الرجل. ثم نراها في 1998 تعالج بالكمبيوتر مجموعة من الصور وتجهيزات الفيديو التفاعلية، بالتعاون مع بيير زوفيل، استلهما فيها تحولات الجسد في ثقافة مايا وأولميك، لمعرض في متحف كاريلو جل في المكسيك.
عودة إلى بدايتها الفنية سنة 1964 حين، أو حيث كانت لا تزال تعيش في بلدتها الأصلية سان اتيان، نفّذت عملها “وهو المشي بطيئا”( Marches au ralenti) وفيه مشت عبر نقطتين في المدينة بأبطأ ما يمكن. ومن عام 1965 إلى عام1983، بدأت مشروعها “قياسات“، استعملت فيه جسدها كآلة قياس أسمتها “جسد أورلان“. في هذا العرض الأدائي المعقد، استخدمت أورلان وحدة “جسد أورلان” لتحديد: كم عدد الناس الذين يمكن أن يدخلوا في الفضاء المعماري المتاح؟ كانت قد استخدمة في هذا العمل دمية جذعها كوحدة قياس! ونراها من عام 1964 إلى 1966 في سلسلة من الصور الفوتوغرافية المعروفة الآن بـ“محاصيل العنب” (هناك نسخة باقية وحيدة من كل صورة أصلية حيث نيجاتيف الصور الأصلي تم إعدامه)، في هذه السلسلة صُورت عارية في وقفات مختلفة تشبه أوضاع اليوجا.
وفي 1978، قامت بعرض أعضائها الجسدية تحت عدسة مكبّرة وهي أثناء الحيض ، وذلك لعمل وثائقي باسم (“رأس ميدوزا“) شعار الأداء فيه كان نص فرويد عن رأس ميدوزا بعنوان: “يهرب الشيطان لمّا يرى الفرْج“!
فلا شك أن أورلان، كما ذهبت في جسدها مسافة أبعد من العالم، خطت بالفن خطوة مماثلة أيضآ. هي الفنانة الوحيدة التي استعملت جسمها بهذا الشكل غير المسبوق، وهذه منطقة الأصالة فيها، إذ هي استجلبت إلى الجمال المعاصر مستويات استثنائية، عبر استخدامها الجراحة التقويمية كوسيط فني، بما تتضمنه رسالتها من أخلاقية تتمثل في احتفائها بالتقدم الحديث تكنولوجيا وطبيا، طالما كان الاستخدام إيجابيا، حيث امتلاك القدرة على تغيير الطبيعة وإعادة تشكيل الجسد كما يريد الإنسان. هذا الجانب في عملها، وكذلك الجانب الناقد للمفاهيم الخاطئة في المجتمع، وإيمانها بالنسوية ودفاعها العنيد عن حق المساواة بين الجنسين، هي الظاهر أو النوايا المعلنة، والتي يصعب التشكيك بها. غير أنه مع النظر المدقق في كواليس عروضها وحركتها عموما ، من هنا يبدأ المرء في استشعار أو استكشاف نوايا أخرى أكثر التباسا، تتهدد التعاطف الكامل مع عملها، خصوصا حين نعرف أن كل ما تفعله أورلان هو من أجل المال أو الدعاية والإعلان؛ وأنها تستعمل نفسها كسلعة تجارية (الفكرة التي تنتقدها هي نفسها بشل تدينها في عملها)؛ وأن كل أدوات وبقايا وآثار عروضها مثل الصور الفوتوغرافية، أفلام الفيديو، الإكسسوارات والملابس… انها تباع بأسعار باهظة للمهووسين، إلى حد الذي باعت فيه حتى السوائل والإفرازات الذي تبقت من عملياتها الجراحية، وأنها تدفع المال لكي تُجرى معها اللقاءات؛ وأن كل ملابس وبدلات عروضها من تصميم وتنفيذ أكبر مشاهير الأزياء عالميا، وهي تظهر كثيرا وبانتظام في مجلات الموضة وبرامج الحوارات؛ وأن بعد كل عملية جراحية، تغطيها وكالة إعلانات وتعطيها اسماً جديداً لاستبدال أورلان… مثل هذه التفاصيل تطغي بصخبها، الذي لا علاقة له بالفن، على مفهوم العمل نفسه وتثير السؤال عن ماهي النوايا الحقيقية للفنان!
مقال جميل واضح به كل ما يرنو له ونقد جريئ بناء نشكرك زهرة سورية لكل ما تضعيه بينا يدينا من الفائدة والمعرفه
جزاك الله كل خير لأنك تطرقت لهذاالجزء من هؤلاء المريضين نفسيا ولاعندهم ثقة بانفسهم لذا يلجؤن الى تغيير خلقة الله جل جلاله . فلتسمع كل امراة وكل رجل بأن الثقة بالنفي تجعلهم أسعد الناي وهي قبولهم بخلقة الله عز وجل ؟ومقالك رائع