الجابري والمنظور التاريخي في قراءة «الدين والدولة» بقلم : مأمون شحادة
ان الاختلافات العصرية في المجالات الحياتية ما بين الماضي والحاضر، تبين ان لكل عصر من العصور اهتمامات وظروفا خاصة تحتم عليه التكيّف معها، والتي تختلف فيما بينها (حياتيا) عن الماضي (واقعاً وظروفاً). وان معالجة الجوانب الحياتية لأي منها يتطلب تجاوز القيود
المنهجية، والتعامل معها بمرونة من زاوية النسبية والمنظور التاريخي.
نعم، هذا ما جعل من المفكر المغربي د.محمد عابد الجابري يغوص في تلك الاختلافات برؤية تاريخية معاصرة من خلال كتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، ولكن، كيف كانت رؤيته تجاه تلك الاختلافات؟ وما مدى تطلعه الايبستمولوجي (المعرفي) من ناحية النسبية والمنظور التاريخي؟
ان "معظم المرجعيات التي يستند إليها الباحثون المعاصرون كانت موجهة، بكيفية أو بأخرى، بالظروف السياسية التي زامنتها. وإذا كان الباحث المعاصر نفسه ذا ميول سياسية يريد تكريسها، فإن الحقيقة ستتشتت وتضيع دونما شك بين معارج سياسة الماضي ومتاهات سياسة الحاضر.." هكذا قالها الجابري، كإشارة تنبيه منه الى ان المجالات الحياتية، وبخاصة بعد وفاة النبي محمد (ص)، أصبح ينظر اليها بـ«منظار» مراعاة الظروف الجديدة، وعدم التقيد بحرفية النص، على أساس أن المصلحة يجب ان تكون حاضرة دوماً في تطبيق الشريعة، ويجب ان يكون لها الاعتبار الاول، معتمدين على قول رسول الله (ص) «أنتم أدرى بشؤون دنياكم»، فأخذ الصحابة يطبقون الشريعة، وينظرون الى التطبيق من خلال ما يترتب عنه من مصلحة أو مضرة.
ان العلاقة بين الدين والدولة في الاسلام تفتقد الى وجود نصوص «صريحة» في الكتاب والسنة، تبين وجوب، او عدم وجوب اختيار الإمام، وإقامة الدولة، وتحديد كيفية اختياره، ومدى صلاحياته، جاعلة من أصحاب رسول الله (ص) واقرب الناس يشعرون ان غياب الرسول ترك فراغاً في زمن كان الجهد فيه متجهاً الى نشر الدين والدفاع عنه، مترافقاً مع الفتوحات الاسلامية (الجهاد)، حيث أخذ الصحابة يعالجون مسألة خلافة النبي معالجة سياسية محضة وفق ما اعتبروه مسألة اجتهادية، وتعاملوا معها بوصفها كذلك، وفق اعتبار ميزان القوى ومراعاة المقدرة والكفاءة، ومصلحة المجتمع الإسلامي الوليد، كل ذلك كان محكوماً بمنطق «القبيلة» وتصارع المهاجرين والأنصار، والذي تمثل في حصر المشكلة كلها في من يخلف النبي (ص( .
ما يعني ان «الخلافة» لم تُطرح بمفهوم الدولة، بل بالشخص الذي سيُبايع، كشرط للحكم بكتاب الله وسنة رسوله، ليصبح فيه مسؤولا امام الله، وليس امام من بايعوه، بحيث يكون بالاختيار لا بالنص، لأن النبي(ص) لم يوصِ لأي أحد من بعده، تاركاً مسألة أمرها للمسلمين اجتهاداً، لأنها تختلف باختلاف العصور وتغيّر الظروف.. ليتبين انهم اخذوا بعين الاعتبار التقاليد القبلية، التي كانت سائدة آنذاك في المجتمع العربي القبلي المحافظ، الذي لم يكن ناضجاً بعد لقبول اي نمط سياسي جديد غير النمط التقليدي المتمثل «فيما يعرف» بمؤسسة «السيد» (النادي او الندوة)، التي كانت على زمن الجاهلية، باعتبارها انموذجاً للبنية الاجتماعية السائدة في المجتمع القبلي آنذاك والمعتمد على عنصر النبل وشرف الاصل والولاية، باعتباره اهم معيار من معايير «سيد القبيلة» ايام الجاهلية، ما جعل من القيادة المسؤولة بعد وفاة الرسول(ص) تتبنى ذلك الانموذج المألوف، عوضاً عن استحداث أنموذج آخر «مغاير» قد يعصف بكل شيء، على الرغم من أن النبي محمد (ص) كان يعقد جلساته واجتماعاته في المسجد النبوي لإقرار أمر الرعية، باعتباره المكان المخصص للندوات، لكن اجتماع سقيفة بني ساعدة ( النادي او الندوة) جاء مغايراً لما كان يفعله رسول الله (ص)، كإشارة من الصحابة الى ان عقد الاجتماع في المسجد سيؤدي الى صبغ هذا المنصب بـ«القداسة»، ما جعلهم يفضلون السقيفة على غيرها.
هكذا تمت عملية الاختيار، لرأب الصدع الذي كاد يفتك بالمسلمين آنذاك، بالتوافق مع الأنموذج الملائم للبيئة العربية (القبلية) والمغاير للنماذج الرومانية والفارسية، ليتضح دور التراث السياسي القبلي وتأثيره في صوغ نظام الحكم الجديد الذي لم يتطرق الى دور العامل الديني الاسلامي، وكان مدلول وراثة المنصب هو المدلول المألوف لمصطلح الولاية عند العرب في الجاهلية، واستمر ذلك في الاسلام، ليتضح انهم استفادوا من الماضي، وصبغوه لبناء المستقبل والسير عليه، وليس العيش في كنف الماضي دون التطلع للمستقبل.
من هذه الحقائق التاريخية، يبدو واضحا ان مسألة العلاقة بين الدين والدولة لم تطرح، لا في زمن النبي (ص)، ولا في زمن الخلفاء الراشدين، ذلك لأنهم لم يعيشوا من قبل ومن بعد مفهوم «الدولة»، بمعنى الدولة، ولكنهم عاشوها بمعنى التداول «تغيّر حال بحال»، ما أدى الى خلاف حول معنى الإمامة «ولي الأمر»، ليتمخض عن ذلك «ثلاثية انتقالية» بدأت من مواقف السياسة وانتهت بمستوى التنظير السياسي، وفق مواقف متداخلة، لينتقل الخلاف من مواجهة الأنصار الى مواجهة الشيعة والخوارج في أحقية الخلافة والإمامة.
فالشيعة اعتبروا أن الإمامة فرض من فروض الدين، وركن من أركانه، في إشارة الى أحقية علي بالإمامة. وأما موقف أوائل الخوارج والمعتزلة، فاعتبروا أن الدين لا يحضّ على وجوب إقامة الإمامة، ولا على وجوب تركها، بل ترك أمرها للمسلمين، بحيث إنها لا تدخل ضمن مسألة الواجب شرعاً، او الممنوع شرعاً من ضمن حدود الانصاف والعدل. اما الموقف الثالث فهو موقف عموم أهل السنة الذي اعتبر ردا على الموقفين السابقين، باعتبار «الامامة» بالاختيار، لا بالنص.
ان تلك التناقضات اخذت ثلاثة توظيفات، لتبرير حوادث واختيارات سابقة، كالخوارج والشيعة الذين شككوا في شرعية الطريقة التي عيّن فيها الخلفاء الراشدون ومسألة الأفضلية، والثانية لتبرير الحاضر بإضافة الشرعية عليه، مبررين في ذلك جواز انعقاد الامامة بمبايعة شخص واحد باتخاذهم من مبادرة عمر بن الخطاب في مبايعة أبي بكر ايام السقيفة مبرراً لذلك. والمبرر الثالث من أجل تفضيل «حال الدولة» مثلما فعل معاوية بتولية ابنه يزيد بحجة إنهاء الصراع ما بين المتخاصمين على الإمامة!.