المسارح الأثرية في جبل العرب… نموذج فريد في الهندسة المعمارية ودليل على التفاعل الحضاري والثقافي
تعد منطقة جنوب سورية من أغنى المناطق في بناء المسارح الأثرية والتي انتشر بناوءها بين القرنين الأول والثالث
الميلاديين ما يدل على المستوى الثقافي في هذه المنطقة ورقي إنسانها ومدى تحضره إضافة للتطور والتفاعل الحضاري والثقافي بين شعوب المنطقة في مختلف مجالات الحياة وخاصة العمرانية والثقافية منها.
وأدت المسارح التي شيدت في هذه المنطقة وظائف متعددة منها الاجتماعات السياسية والعسكرية والدينية والبلدية إضافة لوظيفتها الرئيسية في الجانب الفني والثقافي وتقديم العروض المسرحية والحفلات الموسيقية كما راعت الهندسة المعمارية للمسارح والبالغ عددها 11 مسرحاً شروط الرؤية والإضاءة والتهوية والصوت والحركة والديكور وشكلت مدرسة في الهندسة المعمارية والتنظيمية حيث قدمت المنطقة نماذج متعددة من الأوابد الأثرية و التراث المعماري.
ومن بين تلك المسارح التي بنيت في منطقة جبل العرب جنوب سورية زمن الازدهار العمراني في الإمبراطورية الرومانية خمسة مسارح توزعت في السويداء وشهبا وقنوات وشقا.
وقال المهندس وسيم الشعراني رئيس دائرة آثار السويداء إن المسرح الكبير في مدينة السويداء والذي يعود بناؤه إلى نهاية القرن الثاني الميلادي هو بحجم مسرح بصرى بحسب المخطط المعاد تصوره إلا أن مدرجاته بقيت تحت الشارع المحوري الذي يخترق المدينة من شمالها إلى جنوبها أما كواليسه فهي باقية وظاهرة للعيان على جانبي الشارع بينما المسرح الصغير الأوديون الذي يعود بناؤه أيضاً إلى القرن الثاني الميلادي فقد تم الكشف عن مدرجاته السبعة إلى الغرب من الكنيسة الكبرى و مازال العمل مستمراً لكشف معالمه الباقية حيث تبين أن هناك علاقة وثيقة لهذا المسرح بالساحة الأمامية للكنيسة الكبرى و بالمسرح الكبير و استخدم قديماً كقاعة اجتماعات و حملت مقاعده رموزاً يونانية.
وأوضح الشعراني أن مسرح شهبا الذي يقع في الجهة الجنوبية الغربية من مدينة شهبا و إلى الجنوب من المقبرة الملكية لأسرة الإمبراطور فيليبيون كان مكوناً من طابقين من المدرجات علوي وسفلي وتحتوي الطبقة الأولى درجات طولها مجتمعة حوالي 450 متراً وتستوعب حوالي 2500 شخص يجلسون في الرواق العلوي وساحة الأوركسترا حيث يفتح الممر الفاصل بين الطبقة الأولى والثانية سبعة مداخل تتوافق أيضا مع أدراج التفريغ في المسرح والبالغة في الطبقة الأولى ثلاثة وفي الطبقة الثانية خمسة وكذلك مع الرواق الداخلي الخلفي والأدراج الداخلية ما يجعل من السهولة بمكان بالدخول والخروج وإخلاء المسرح بفترة زمنية لا تتجاوز ثماني دقائق.
ولفت رئيس دائرة آثار السويداء إلى أن مسرح شهبا يعتبر من النماذج الجميلة للمسارح الصغيرة في سورية حيث يبلغ قطره حوالي 43 متراً ويندرج بناوءه ضمن البرنامج العمراني الكامل لمدينة شهبا في عهد الإمبراطور فيليب العربي في منتصف القرن الثالث للميلاد ويعد آخر بناء مسرحي روماني في المنطقة وربما في بلاد الشام والعالم الروماني.
وأشار.. إلى أن بناء المسرح قد تعرض لخراب كبير في القرون الماضية خاصة في مبنى المنصة بينما تم الكشف عن الأوركسترا والقسم السفلي من أماكن المتفرجين والأروقة الجانبية في النصف الثاني من القرن العشرين وفي عام 1952 تم البدء بإجراء الرفع الهندسي وتنفيذ الأسبار الضرورية ومن ثم الكشف النهائي والترميم بالتعاون بين المديرية العامة للآثار والمتاحف والمعهد الفرنسي لآثار الشرق الأوسط لإبراز هذا المعلم الأثري الهام.
وبين الشعراني أن مسرح قنوات الصغير الأوديون الذي يقع على الضفة الشرقية لوادي قنوات وإلى الشمال من معبد آلهة المياه يعود بناؤه إلى النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي و يبلغ قطره حوالي 46 متراً ويتسع لحوالي 4000 متفرج وتأخذ منصته اتجاه الغرب محاذية لوادي قنوات إلا أنه لم يبق منه إلا تسع درجات بعضها محفور في الصخر.
ولفت إلى أن هذا المسرح كان يحتل استقلالية هندسية خاصة مع ارتباط عام ومشترك مع الأبنية الأخرى التي بنيت لوظيفة تشابه وظيفة المسرح كما عثر في جدار جوقته على كتابة يونانية تقول إلى الآلهة الصالحة ماركوس أولبيوس ليزياس بن إيكاروس قد قام بتوسيع بناء الأوديون وجعله على شكل مسرح بـ10000 قطعة نقدية بسرور وشجاعة.
وأشار الشعراني إلى أن نصوص النقوش الكتابية والرقم الأثرية التي عثر عليها في موقع شقا الأثري تدل على وجود مسرح في هذا الموقع إلا أن معالمه لا تزال مختفية وجار العمل لتحديدها موضحاً أن العامل المشترك لجميع المسارح التي بنيت في جنوب سورية هي وحدة مادة البناء من الحجر البازلتي الأزرق القاسي المتوفرة بشكل كبير في المنطقة الأمر الذي أتاح ضخامة في البناء وسماكة كبيرة للجدران والركائز وصلابة قوية جعلها تقاوم عوامل الطبيعية لفترات زمنية طويلة إضافة إلى النظم الهندسية المحكمة التي استعملت في ترابط الأروقة والأقواس والركائز والممرات والأبواب وتهويتها من الداخل وعدم تعرضها للرطوبة والملوحة التي تفتت الأحجار البازلتية.
من جهته أوضح الباحث في الآثار الدكتور علي أبو عساف أن مهندسي ومصممي تلك المسارح أولوا اهتماما كبيراً في ربطها مع التنظيم العام للأمكنة التي بنيت فيها من جهة ومع البنية الرئيسية الأخرى التي لها وظيفة ترفيهية ثقافية من جهة أخرى وبالتالي كان حجم المسرح واتساعه يتوافق مع حجم المدينة التي بني فيها وأهميتها الإدارية وكثافتها السكانية ويتناسب مع عدد المقاعد والمتفرجين ما جعل أقطار المسارح متفاوتة ومتعددة الطبقات والأروقة والتقسيمات الداخلية مبينا أن المبدأ العام للمسارح كان عبارة عن مدرجات لجلوس المشاهدين القادمين لحضور عرض ما يلقى على أرضية المنصة أو ما يعرف اليوم بخشبة المسرح أو فوق أرضية الأوركسترا.
وأضاف أبو عساف إن المسارح التي بنيت في هذه المنطقة اختلفت في الهيكل و في الشكل أيضاً حيث ظهر المسرح نصف دائري مع المنصة المستقيمة وأحياناً المسرح المنفرج والبيضوي المبتور أو شبه الدائري لافتاً إلى أن المهندسين المصممين للمسارح راعوا في مخططاتهم الفصل بين المنصة وأماكن المتفرجين بساحة منبسطة تسمى الأوركسترا بحوالي 5ر1 متر.
وتحتضن منصة الاوركسترا من الخلف وبشكل موجه للمسرح جبهة عليا تأخذ نفس ارتفاعها مزينة بالنيشان وطبقات الأعمدة المفصولة بنطاق زخرفي رائع أغلب الأحيان على النموذج الكورنثي وخلف هذه الواجهة توجد صالة فسيحة تسمى الكواليس من اجل تهيئة الممثلين للقيام بأدوارهم على المنصة مثل تغيير الألبسة والمكياج وتبديل الأدوار وغيرها وهذه الصالة تكون دائماً على شكل رواق المنصة.