العمارة البيئية الخضراء مفهوم تجلى منذ القدم في مفردات البيت الدمشقي..
أصبح تبني مفهوم العمارة الخضراء واقعا قائما في أوروبا وأميركا وشرقي آسيا إذ تلعب الأبنية الخضراء دورا
أساسيا مهما في إعادة تدوير المناخ السلبي والتخلص من آثاره كما بينت الإحصاءات العالمية الأخيرة أن الأبنية التقليدية تستهلك 48 بالمئة من الطاقة الكهربائية المسؤولة عن طرح ما نسبته 25بالمئة من غاز الكربون السام.
واستجابة للمخاوف المتزايدة من ظاهرة التغير المناخي وآثارها السلبية كان لابد من التوجه إلى خيار العمارة البيئية النظيفة خصوصاً أن القطاع العمراني يعد احد قطاعات النشاطات البشرية التي تسعى إلى تحقيق البعد البيئي من خلال خفض استهلاك الطاقة والاستثمار الأمثل للموارد الطبيعية والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة وصولاً إلى مفهوم العمارة الخضراء أو العمارة صديقة البيئة.
الخبير البيئي الدكتور نادر غازي يرى أن مفهوم العمارة الخضراء أصبح مترافقا مع مفهوم الاستدامة والمباني المستدامة بهدف الحد ما أمكن من التأثيرات السلبية على البيئة وتفادي تكاليف الطاقة الكبيرة ومواد البناء لذلك كان التوجه نحو الطاقات البديلة والمتجددة والتقليل من الانبعاثات الغازية الناتجة عن الاستخدام المنزلي وتقليل الملوثات الصلبة والسائلة مبينا ضرورة إدخال مفهوم العمارة الخضراء في مراحل البناء المختلفة بدءا بالتصميم وصولاً إلى التنفيذ فالتشغيل وذلك للتخفيف من استخدام الطاقة التي باتت عبئا اقتصاديا إضافة إلى كونها عبئا بيئيا كبيرا على الأفراد والمجتمعات والحكومات.
ويضيف غازي إن العمارة الخضراء تسعى إلى تقليل أثر البناء البيئي من خلال عمليات التصميم والتنفيذ والاستخدام مع تحقيق الراحة والأمان وخفض الكلفة إضافة إلى أنها تسعى ما أمكن إلى التقليل من الاعتماد على الأجهزة الاصطناعية سواء أكان ذلك للتكييف أم للإضاءة بل إنها تسعى إلى توظيف الجانب البيئي الطبيعي في التهوية والإنارة وتأمين بيئة سكن وعمل صحية ترفع من معدلاتِ إنتاجية الأفراد الأمر الذي يحقق وفراً مالياً وفوائد بيئية وصحية تنعكس إيجاباً على البيئة والإنسان.
ويقول الخبير البيئي إن معظم الدراسات أشارت إلى أن إدخال البعد البيئي في قطاع العمران يسهم في خفض استهلاك الطاقة بنسبة تصل إلى نحو الثلث من إجمالي الاستهلاك في المباني التقليدية وزيادة إنتاجية العاملين والتقليل من تعرضهم للإجهاد والأمراض نتيجة استعمالهم ضوء النهار الطبيعي إضافة إلى زيادة التحصيل العلمي المدرسي بنسبة تصل إلى نحو الربع في القاعات المضاءة طبيعياً بضوء الشمس.
ويلفت الخبير غازي إلى أن العمارة الخضراء تركز على فكرة الاستفادة من الطاقات المتجددة كالشمس والرياح والتكيف مع المناخ وتهيئة جو داخلي مريح إضافة إلى التقليل ما أمكن من استخدام الموارد الجديدة عند إعادة تشييد البناء بسبب نهاية عمره الافتراضي ومراعاة عدم إحداث تغييرات جوهرية في مكان الإشادة أو معالمه.
ويجسد البيت الدمشقي بصفاته الفريدة التي اكتسبها خلال قرون من الازدهار الحضاري أروع الأمثلة على مفهوم العمارة البيئية الخضراء من خلال توزيعه الوظيفي والجمالي وفقاً للخبير غازي فلا يخلو أي بيت دمشقي قديم من الأشجار دائمة الخضرة التي لا تتساقط أوراقها صيفاً أو شتاءً كأشجار التوت والنارنج والكباد والليمون والبرتقال وبعض الأزهار ولاسيما الياسمين الدمشقي والوردة الدمشقية وهكذا يكون صحن الدار روضة غناء تغني الساكن عن الحدائق الخارجية كما يعد هذا البيت مثالاً صادقاً على جمال البيت العربي المغلق من الخارج والمفتوح من الداخل والذي تتوسطه بركة جميلة تحيط بها غرف البيت الموزعة بين طابقين.
وكمثال بسيط على العمارة صديقة البيئة والمتجسدة في البيت الدمشقي فقد كانت النافذة تستخدم لدخول ضوء الشمس وإنارة المكان وتجديد الهواء وكانت تفتح على صحن الدار والإيوان والمشارق الواسعة فقط ولا تفتح على خارج الدور كالطرق بحيث يظل كل ما في الدار ضمن جدرانها أما صحن الدار فهو معرض للشمس من الصباح حتى المساء يتخلله الهواء النقي.
ويقول الخبير البيئي غازي إن بازلت المنطقة الجنوبية في السويداء يعد مورداً مهماً ومادةً طبيعية لحماية البيئة إذ استخدم على مر العصور في بناء البيوت والقلاع والقصور الفخمة والأوابد التي لا تزال شاهدةً حتى الآن على روعة الحجر البازلتي وجماله وهو متوافر بأحجام مختلفة ويستخدم كثيراً في فرش الطرقات والردم وصناعة الأسمنت وإكساء البناء داخل سورية وفي دول الخليج وأوروبا وتركيا كما يتمتع البازلت بخصائص كثيرة كمقاومته الحريق والأحماض والحت والاهتراء ويعد عازلاً للحرارة والرطوبة ومقاوماً للصقيع وكتيماً للسوائل إضافة إلى أنه ذو ثباتية عالية للتبدلات الحرارية تصل حتى700م.
الخبير المعماري والإنشائي هادي الأديب يرى أن المشهد العمراني في مجال الاستثمار العقاري والسياحي شهد تطوراً كبيراً في الآونة الأخيرة على مستوى العالم وبدأت مؤسسات استثمارية كبيرة بإنشاء تجمعات سكنية كبيرة في الضواحي تنطبق عليها معايير الأبنية صديقة البيئة من حيث مراعاتها نسبةَ المساحة الخضراء المزروعة كما بدأت تظهر في الواقع مشاريع هندسية عدة بتقنيات عالية تبحث في هذا المفهوم وأنظمة دولية اعتمدت لتقييم أداء المبنى البيئي من حيث توفيره الطاقةَ والحفاظ على شروط البيئة الصحية وتحقيقه متطلبات التنمية المستدامة ومنها نظام اليد العالمي.
ويضيف الخبير الأديب إن استعمال العزل الحراري الجيد أمر ضروري في الأبنية الخضراء إذ ان عزل المبنى عن المناخ الخارجي يساعد على تطوير نظام مناخي داخلي يناسب احتياجات المكان الذاتية خصوصاً في المناطق ذات المناخ المعتدل أو التي تصل فيها درجات الحرارة إلى معدلات مرتفعة صيفاً كما يحدث في منطقة البحر الأبيض المتوسط إذ تستعمل حالياً في الكثير من البلدان الأوروبية أنظمة عزلٍ زجاجي ثلاثي مضاعف لتأمين عزلٍ عالي المستوى مع أقل ما يمكن من فقدانٍ للطاقة.
ويرى الأديب أنه على المطورين والمستثمرين المعماريين العملَ على مراعاة شروط العمارة البيئية الخضراء التي تحقق شروط الاستدامة البيئية خلال فترة حياة المبنى وذلك من خلال استعمال أقل ما يمكن من الطاقة والماء والحفاظ على شروط جمالية المبنى واقتصاديته وتوفير مستوى عال من الراحة لساكنيه وذلك بالاختيار المناسب للموقع وتأهيله وإعادة تدوير مواد البناء.
لطالما كان الإنسان محور أي عملية تهدف إلى تحقيق تنمية مستدامة ولطالما ارتبطت سلامته بسلامة البيئة التي يتفاعل مع مكوناتها ومواردها الطبيعية لذلك فإن بناء مسكن صحي يحقق شروط البيئة الصحية انطلاقاً من مفهوم النظام يعتمد بشكل أو بآخر على تأمين المجمع السكني الصحي والمدينة الصحية عموماً وهو ما تحققه العمارة البيئية الخضراء بتضامن جهود القطاعين الحكومي والخاص والمؤسسات التطوعية وبمشاركة المجتمع المحلي واقتناعه التام بأهمية المحافظة على البيئة التي تعد واجباً وطنياً وإنسانياً.
وإن العمل على إدخال مبادئ العمارة البيئية في مناهج كلية الهندسة المعمارية في جامعاتنا خصوصاً وفي خطط وبرامج التأهيل والتدريب المستمر عموماً إضافة إلى غرس قيم التذوق الجمالي وتنمية السلوك المعرفي بأصول العمارة الخضراء وأهميتها من الناحيتين البيئية والصحية تعد ضرورة في ظل ما يشهده القطاع العمراني من توسع وازدهار وما تعانيه الأرض من أمراض ليس آخرها تلوث الهواء والتغيرات المناخية.