بين لندن ودمشق سقطت أقنعة وسائل الإعلام المحرضة

المهنية , المصداقية , الشفافية , الإخلاص بالعمل , الرأي والرأي الآخر , الحياد , نقل الواقع والعديد من المعاني والمعايير المهنية الأخرى التي وضعت كمعايير وأسس عالمية لمزاولة مهنة الإعلام ..

وهذه المعايير المهنية لم تحدد فيما إذا كانت هذه الوسائل الإعلامية عامة أم خاصة , ولم تحدد نوع الوسيلة الإعلامية فيما إذا كانت صحف إلكترونية أو ورقية أو مجلات أو محطات فضائية أو إذاعات , لأن المهنية الإعلامية متفق عليها بغض النظر عن نوعية الوسيلة الإعلامية أو طبيعتها أو عائديها أو الدولة الممولة لها , وربما لا يكون هناك نص قانوني صريح لها دولياً , لكننا لا يمكن أن نغمض أعيننا عن مواثيق الشرف الإعلامية أو الاتفاقيات الدولية لأن ذلك يعتبر جزءاً من القانون الدولي الذي ينظم علاقات الدول ويعزز في مكانتها وسيادتها ..

الكثيرون من مزاولي المهنة الإعلامية يجزمون بأن الابتعاد عن هذه المعايير وتجاوزها يعني الإعلان صراحة بالانحياز والسير باتجاه طريق التضليل الإعلامي والذي يعتبر تضليل للرأي العام باعتبار أن وسائل الإعلام ذات مكانة سيادية في إثارة الرأي العام وتوجيهه بالطرق التي ترغب بذلك , وحينما نتحدث عن التضليل الإعلامي فإننا نتحدث عن الكذب وصناعة الأكاذيب على الرأي العام تضليله عن الحقيقة , فالرأي العام من أهم خصائصه أن يرتكز على عنصرين أساسيين هما الحرية والمعرفة ..

فالحرية بالنسبة للرأي العام تعني أن تمارس وسائل الإعلام استطلاعها حول موضوع معين أو قضية معينة بحرية كاملة وبكل حياد وشفافية أي سماع الرأي والرأي الآخر , دون وجود دوافع للتحريض أو غايات تهدف لممارسة حرب نفسية تجاه متابعي هذه الوسائل الإعلامية , كما يجب أن يملك المواطن والمسؤول الحق في امتلاك هذه الحرية بالتعبير وإبداء الرأي , أما المعرفة فهي معرفة خصائص وخلفية وسائل وأدوات أي قضية تثار للنقاش في الرأي العام , بحيث لا تقوم وسائل الإعلام بصناعة خليفة حدث معين أو تلفيقه لحدث معين أو لدولة معينة بهدف إلحاق الضرر والأذى وتشويه السمعة لمؤسسة أو دولة أو حكومة , حيث تنقل وسائل الإعلام من نقل للوقائع والأحداث إلى صناعة وتركيب لهذه الأحداث بعيداً عن الواقع وإن ما يتابعه الشارع السوري من أحداث عبر قنوات التحريض العبرية كفيلة لأن تكون نموذجاً عما نتحدث به ..

وبعيداً عن رأيَّ كإعلامي أو متخصص في مزاولة المهنة الإعلامية فلابد من أن أشير إلى حالات ونقاط لم تعًّد بعيدة عن نظر أي مواطن متابع للعاصفة التي تجتاح العالم وبشكل خاص المنطقة العربية , فإنني أؤكد بأن العديد من وسائل الإعلام المغرضة وخاصة القنوات العبرية الناطقة باللغة العربية فقد سقطت عنها أقنعها لأنها تجاوزت الخطوط الحمراء في النزاهة الإعلامية ووضعت مواثيق الشرف الإعلامية جانباً في تناولها للموضوعات والقضايا الدولية ..

كيف تناولت بعض وسائل الإعلام القضايا العربية الأخيرة ؟ وما موقفها في أحداث بريطانيا ؟ .. هذا هو السؤال الأول العريض الذي يمكن لمن يفكر به جيداً أن يعرف إلى أي مدى تستخدم هذه الوسائل الإعلامية أقنعتها في التعامل مع الموضوعات والأحداث والمتغيرات الدولية ..

والسؤال الأخر الذي أود التحدث عنه .. كم إعلامنا السوري شفاف وحريص على أن يحترم مواثيق الشرف الإعلامية وأن يحترم معايير مزاولة المهنة الإعلامية , حيث نقل ما يجري في بريطانيا كما حدث دون زيادة أو نقصان , رغم أن الوقت مناسب لصناعة الأكاذيب وتلفق التهم ؟؟

لنبدأ بالحديث في النقطة الأولى .. ومن لندن فقط وصفت بعض وسائل الإعلام المغرض بأن ما يحدث في لندن وباقي المدن البريطانية عبارة عن أحداث شغب وسرقات وقد اتخذت هذه الرؤية من خلال حديث رئيس الوزراء البريطاني أمام مجلس البرلمان , وهذا ما اعتبرته بعض الوسائل الإعلامية بأنه الحقيقة والواقع وأبعدت أنظار العالم والرأي العام عن الرأي الآخر الذي يعتبر ما يحدث في لندن ليست أحداث شغب بل هي مظاهرات تطالب بتحقيق العدالة والمساواة داخل المجتمع البريطاني وعدم التمييز العنصري بين فئات وأطياف الشعب , وهذه إشارة واضحة لمحاولات النفاق الإعلامي والكيل بمكيال واحد ضد الآخر ..

في حين أنها تشير إلى أن الأحداث التي تشهدها سورية هي مظاهرات للمطالبة في المزيد من الحريات وإحداث تغيير في المجتمع السوري وفي الدستور والتشريعات والقوانين والأنظمة , متجاهلة بشكل كلي عن وجود مجموعات إرهابية ومسلحة ممولة ومدعومة من أطراف خارجية تريد زعزعة استقرار البلاد وزرع الفتنة الطائفية بين أطياف الشعب السوري , فالمشهد المصور الذي يعرض أمامنا على شاشات التلفزة لا يمكن أن يتجاهل هذه الأمور فقد بثت بعض قنوات التحريض وفي مقدمتها ( الجزيرة , العربية , الأورينت , البي بي سي … ) مشاهد مما يحدث في دمشق أو لندن , فرغم أن دمشق قد أكدت وعلى لسان أعضاء فريقها الحكومي والسياسي وعدد من المواطنين بأن ما يحدث في سورية هو مخطط لأجندات خارجية وليس مطالب محقة في أغلبها وقد عرضت هذه القنوات الكثير من المقاطع التي تشير إلى ذلك لكنها لم تنقل الصدق , فهل يعقل بأن الأشخاص الذين يلبسون لباس الشرطة والأمن السوري وتم رميهم في نهر العاصي هم عبارة عن متظاهرين ومن يقوم بإلقائهم هم الأمن السوري , لماذا حاول أن يتجنبوا وجود عصابات ومجموعات مسلحة ..

أما في لندن الكل تابع كيف كانت الشرطة البريطانية تعتقل المواطنين وخاصة أصحاب البشرة السوداء , كما أظهرت بعض المشاهد اعتقالهم لمواطنين خرجوا من المساجد والصور كانت تعرض لمتظاهرين سلميين في حين أن الشرطة البريطانية كانت تعتقلهم وتلبسهم أكياس قماشية على وجوههم ويقولون بأن لندن تشهد أحداث شغب .. هل أغمض خلف الناتو وعملائهم العبريين عن هذه المشاهد التي تخرق حقوق الإنسان ..

في لندن استهداف واضح للقلة من المجتمع البريطاني لأنهم يرفضون أن يعملون بإنسانية كما هي في المجتمعات العربية , في لندن التمييز العنصري يتخذ نفس الوجه الذي يمارسه الكيان الصهيوني في كيانه , وما كانت المظاهرات لتظهر في الكيان الصهيوني إلا لتأكيد على الانشقاق والتمييز العنصري بين الأبيض والأسود وبين الغربي والشرقي , إذا كيف يطالبون بمزيد من الحريات والديمقراطية السياسية وهم نموذجاً للتمييز العنصري ولقمع الحريات ..

في دمشق أعلن السيد الرئيس بشار الأسد بأن هناك مطالب محقة للشعب وعلى الحكومة تنفيذها والعمل على تقديمها , وفعلاً كانت هنالك العديد من الخطوات الإيجابية التي تؤكد التزام الحكومة السورية بنهج الإصلاح , وأكدت بنفس الوقت بأنها ملتزمة بأن تكون الحامي والمدافع والميسر لحياة الشعب , إلا أن الأجندات المدعومة من الخارج والتي تلقت رسائل كثير لتطوير الأزمة في سورية عملت على إعاقة مسيرة التطوير والإصلاح وعملت على تخريب مؤسسات الدولة لإضعافها بهدف تفتيت المجتمع السوري وإعادته إلى عصور قديمة تمكن الدول الصناعية من سهولة السيطرة عليها , ومنها إلى المنطقة العربية باعتبار أن سورية سيدة الموقف في المقاومة ضد المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة ..

أحداث شغب وعصابات مسلحة وأعمال عنف وإرهاب قامت بها مجموعات تخريبية في الكثير من المدن السورية هدفها الإساءة لسورية ولوحدة شعبها ورغم كل ذلك تعاملت الحكومة السورية في حكمة وتروي وأعطت المجال لمن غرر بهم بأن يتراجعوا عن موقفهم ويعودوا إلى التمسك بوحدة شعبهم , ورغم ذلك فقد أثبت كل المحاولات بأن هنالك أجندات خارجية وأشخاص يهمهم مكاسبهم الشخصية أكثر من مصلحة الوطن , فعملوا على إثارة النعرات الطائفية وعلى بث السم بين فئات الشعب والتحريض على الاقتتال بين فئات الشعب , فكانت لغة الشارع هي السائدة وموقف الفوضى والتخريب هو الموقف السائد لأن الحوار كان خارج المؤسسات والمطالب تحولت إلى أعمال فوضى وتخريب وتدمير واقتتال ..

في لندن ما إن أعلنت الحكومة بأن بريطانيا تشهد أحداث شغب حتى اعتقلت سلطاتها ما يقارب ( 1000 ) مواطن وجميعهم يطالب بتحقيق العدالة والمساواة والتخلص من التمييز العنصري , إلا أن ذلك لم يدفع قنوات التحريض لأن تمتلك الجرأة بنقل الواقع لكي يعلم الجميع كيف تكون الموازين الدولية في التعامل مع القضايا العربية ..

طالب الكثيرون من المجتمع السوري أو من خارجه بالإفراج عن المعتقلين السياسيين ومن وصفوهم بمعتقلي الرأي وتم ذلك من خلال مراسيم العفو العام الأول والثاني والثالث , طالبوا برفع حالة الطوارئ وفسح المجال لتأسيس أحزاب جديدة وانتخابات نزيهة وبدأ التنفيذ بهذه المشاريع ضمن خطة متكاملة لبرنامج إصلاحي شامل , ورغم كل ذلك ما تزال أصوات العواء تعلو على صوت الحق , وما تزال مكبرات الصوت تطالب بعدم الاكتفاء , ليس لأن ما تحقق في سورية من انجازات إصلاحية غير كافية , بل لأن الإصلاح لا يخدم أحد من المصالح الأمريكية والصهيونية والمأجورين من حلف الناتو ..

عندما تعلو أصوات عواء المأجورين والعملاء من أجندات خارجية ومن مرتزقة الدول الغربية فهذا دليل على أن الإصلاح في سورية قائم وبأن هذه الأعمال لا ترضي أحداً ممن خطط أو برمج أو يحاول الهجوم على سوريا اقتصادياً أو سياسياً أو عسكرياً , فالمشاهد التي نراها يومياً في لبيبا من قصف وتدمير للقوى البشرية والمؤسساتية والمجتمعية تحت عنوان (( إرادة التغيير )) لا تخدم أحد من البلاد العربية ولا حتى الليبيين أنفسهم , فهي في المقدمة خدمة لدول حلف الناتو وللكيان الصهيوني .. فقد استطاعت دول حلف الناتو أن تشغل معامل الأسلحة لديه والتي أصبح لها وقت طويلاً بدون عمل وجميعنا يعرف بأن من يقود الحلف هي مؤسسات وشركات تصنع الأسلحة بكافة أنواعها , والخدمة الثانية هي سهولة نهب الثروات الباطنية والنفطية الليبية من بين أيدي شعبها , والخدمة الثالثة هي إعادة إعمار البلاد وتوزيع الحصص بين الدول على فواتير التكلفة النهائية لمشروع الإعمار ..

في كل ما سبق من حديث عن ليبيا وعن الخلاف في التعامل بواقعية بين الأحداث بين دمشق ولندن , فلا بد من الإشارة إلى عدة نقاط أهمها ..

– العراق تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وبتأييد من دول الخليج وبعض الدول العربية عام 2003 من الدخول إليه واحتلاله وتفتيت شعبه والسيطرة على مقدراته وربما من أهم المخلفات هو الانفلات الأمني داخل البلاد ونشوء العصابات والاقتتال بين فئات الشعب وعدم التوصل إلى رؤية نهائية لإدارة البلاد بمعزل عن الإدارة الأمريكية , فأصبحت العراق أمام مستقبل مجهول غير معروف تقرره دول حلف الناتو وأحياناً الولايات المتحدة الأمريكية وأحياناً الكيان الصهيوني وفقد بذلك سيادته وقراره الوطني وأصبح أمام مشروع لتقسيم أرضه وشعبه لدويلات كل منها تنسجم مع مخطط استعماري جديد للمنطقة ..

– في مصر ثورة الشباب التي أتت لتنحي الرئيس حسني مبارك واعتقد الكثيرون من أبناء الشعب بأن مشكلتهم الرئيسية هي مع وجود الرئيس مبارك , ففرحوا كثيراً بيوم التنحي وجعلوه يوماً وطنياً , لكنهم مازالوا يخرجوا حتى هذا اليوم بمسيرات ومظاهرات فيوم يخرجون للمطالبة بصيانة حقوق الثورة , ويوم من أجل انحراف المجلس العسكري عن مساره الإصلاحي , ويوم من أجل المطالبة بمحاسبة رموز الفساد , يوم من أجل …….. والسؤال إلى متى ستبقى هذه المسيرات الحاشدة والمظاهرات التي تعم المدن المصرية دون وجود تحرك باتجاه تنمية القطاعات الاقتصادية أو توسيع المشاركة السياسية ؟؟ إلى متى ستبقى مصر دون نظام حاكم واضح المعالم ؟؟

– المنطقة العربية تتعرض لتسونامي جديد من نوعه هو مخطط مطور عن اتفاقية " سايكس بيكو " فماذا تهدف هذه التحركات التي تقودها دول حلف الناتو والتي أراد أن تصنع من المنطقة العربية منطقة ساخنة وتعزز من وجود الكيان الصهيوني وتدفعه للقيام بجرائم جديدة ضد الإنسانية , وقد تغافلت الكثير من المؤتمرات ومجالس الأمن الدولية والقنوات الإعلامية عن نقل وتجسيد ما يحدث في الأراضي الفلسطينية وعن الإرهاب الوحشي اللانساني ضد العرب , ففي الفترة التي تطالب دول حلف الناتو بنزع الشرعية عن بعض الحكومات العربية وخاصة المقاومة منها , تعمل على تكريس الكيان الصهيوني كدولة مكرسة قانونياً , متجاهلين بأن ما يحدث في المنطقة العربية وفي سورية خصوصاً محاولات شغب وفوضى تعمل العصابات الإرهابية بالتنسيق مع دول مغرضة عدة على تفعيلها بهدف إبعاد الدول الداعمة للمقاومة عن خارطة الصراع السياسي الدولي ..