المصورون الفوتوغرافيون شاهد على بطولة الأمكنة السورية
لم تتح لهم الثورة الرقمية متسعاً من الوقت كي يغيروا عدساتهم القديمة إلا أن أماكنهم المحمولة معهم وجباههم
المكسورة في الضوء ترتب نسخة كربونية شفافة من المطارح القديمة والمعاصرة لدمشق الذاكرة البعيدة حيث لم تترك لهم الصورة الرقمية وقتاً للنظر إلى أشجارٍ تظللهم وتماثيل تحدق إليهم شاخصات مرور لم تفارق صورهم المائية الراجلة على أرصفة العاصمة يأخذون صور الأحبة والسواح ليعطوهم نسخة نهائية لكاميرا التصوير الفوري التي انتشرت في شوارع دمشق بداية الثمانينات من القرن الفائت.
يخبرنا المصور الفوتوغرافي محمد حمدو عن رحلته القديمة عام 1972 من بلدة عامودا في محافظة الحسكة متجهاً نحو دمشق حيث كان شاباً في مقتبل العمر وهاوياً للتصوير الضوئي عندها لم تكن الأماكن قد خلصت إلى صياغاتها الراهنة بل كانت ساحة المرجة تعتبر مركزاً للعاصمة السورية عندئذٍ صمم حمدو على شراء كاميرته الباهظة الثمن بلورايد ليشرع في ممارسة جولاته متنقلاً من مكانٍ إلى آخر.
لكنه بعد عام 1992 عندما أنهى النحات محمد السيد تمثاله أمام سور قلعة دمشق صار واضحاً لمصوري تلك الحقبة أن المارة سيسعدون كثيراً لصورة تذكارية مع صلاح الدين الأيوبي يقول حمدو الناصر صلاح الدين كفارس رابض فوق فرسٍ عربية جامحة يغري الكثير من السواح لأخذ صورة معه كون المشهد مأخوذا من موقعة حطين الشهيرة.
ويضيف.. منذ أن وجد هنا هذا التمثال آثرت البقاء إلى جانب صلاح الدين لاخذ صور للناس إنه جد الأمة العربية والإسلامية الذي انطلق من هنا من أمام قلعة دمشق عام 1184 لتحرير القدس ليصطدم بعدها بحامية أمير الكرك الصليبي رينودي شايتون أرناؤوط فأسره وتابع إلى بيت المقدس فكان النصر في حطين بعد أن أسر ملك القدس الصليبي أيضاً غيدي لويزليان.
ويوضح حمدو البالغ من العمر ستين سنة أنه بقي أمام تمثال صلاح الدين ليس ليأخذ الصور للسواح فحسب بل ليروي حكايته المفضلة عن ذلك الفارس منتظراً لساعات طويلة جيئةً وذهاباً بين بوابة سوق الحميدية وسور قلعة دمشق إلا أن زبائن الصورة الفوتوغرافية إلى اضمحلال إذ لا أحد يريد صورة فوتوغرافية كونهم يحملون كاميراتهم الخاصة الديجيتال أو يصورون بهواتفهم النقالة.
ويضيف الملقب بأبو هشام.. الشغل ضعيف وقد تمر ثلاثة أيام دون أن أصور ولا حتى صورة واحدة لقد كبرت ويداي بدأتا ترتجفان ولم أعد قادراً على تثبيت الكاميرا جيداً إلا أنني لن أترك مهنة التصوير التي أعتبرها عشقي وحياتي.
في مكان آخر على امتداد الطريق المتفرعة من شارع رامي إلى ساحة المرجة يقف أبو صفوت صابر أبو محمود تحت النصب الشهير للعمود الذي يعلوه مجسم صغير لقصر يلدز في إسطنبول ليحكي حكايته مع مهنة التصوير.. لم أكن أمتلك مع قدومي إلى دمشق آتياً من جبل العرب كاميرا خاصة بي ولذلك اشتغلت طويلاً في الفعالة حتى أتمكن من جمع ثمن كاميرا للتصوير الفوري متخذاً من ساحة المرجة مكاناً لأخذ صور تذكارية للعابرين من هذا المكان العريق في دمشق.
أحب أبو محمود المكان فمنذ خمسٍة وعشرين عاماً يلتقط صورا للسواح سارداً ما جرى هنا في هذه الساحة تحديداً في السادس من أيار لعام 1916 حيث قام جمال باشا السفاح بإعدام أهم رجالات الحركة الوطنية السورية من صحفيين ورجال علم وأدب وسياسة.
يضيف هذا الفوتوغرافي.. كان جمال السفاح يقف على شرفة مطلة ليرى بعينه الجريمة التي اقترفتها يداه لتنطلق بعدها جموع الدمشقيين تجوب المدينة حاملة نعوش الشهداء مرددة لاقونا ع المرجة والمرجة لينا شامنا فرجة وهي مزينة.
ويوضح أبو محمود.. كما ترى أنا لا أُصور أحداً فلا أحد اليوم يحب أن يتصور بكاميرتي القديمة لقد انتهت هذه المصلحة إني أقول لهم دعوني أصوركم مع أصغر جامع في الأرض لا يدخله مصلون لكن الديجيتال وكاميراته السريعة البالغة الدقة أدت إلى تحويلنا نحن المصورين الفوريين إلى ما يشبه التراث.
أما تحت جسر المشاة الشهير باسم جسر فكتوريا يقبع بديع زهرة وجه أتى من مدينة السلمية وتقترب ملامحه من ملامح الشاعر السوري محمد الماغوط يقول.. أنا لا أكتب الشعر لكنني ألتقط الصور منذ أكثر من ثلاثين عاماً أجلس على كرسي خشبي بعد أن أضنتني السنون الطويلة وإرهاق العمل واضعاً أمامي كاميرتي الغالية من نوع بلورايد منفاخ لكن لا أحد يريد أخذ صورة.
ويضيف أحد اعضاء نادي التصوير الضوئي بدمشق.. سنوات طويلة مرت علي على ضفة نهر بردى كنت أرابط فيها مقابل سينما أوغاريت لكن اليوم وبسبب الاكتظاظات الهائلة للسيارات والبشر العابرين مازلت أحدث اصدقائي من الباعة المتجولين عن فكتوريا الملكة التي لم تأت إلى دمشق لكنني ما زلت أنتظرها ها هنا تحت الجسر بعد أن زرعت نخلةً في تراب المنصف وسقيتها واعتنيت بها لمدة خمسة عشر عاماً لأجلس تحت ظلها.
ويقول المصور بديع.. عندما دخل التصوير الفوري الملون إلى سوريا عام 1974 كان الناس الذين اعتادوا الحصول على صورهم بالأبيض والأسود بعد يومين أو ثلاثة من التحميض كانوا يظنون أن هذا النوع من التصوير هو عبارة عن سحر أو رجس من عمل الشيطان وهم رافضون أن يتصوروا لأنهم يقولون إن الصورة حرام لكنني تعلمت دروسي الضوئية وحدي متقرباً من ذهنية الناس لأوضح لهم كيفية عمل الكاميرا الفورية وما هي إلا شهور وصار لدي عشرات الزبائن بل انني صرت مقصداً لكثير من السواح العرب والأجانب.
يحكي زهرة البالغ من العمر سبعين عاماً ولعه القديم بفن الصورة.. علاقتي مع الصورة هي ذاتها مع مدينة دمشق التي أحببتها وسجلت لها بكاميرتي القديمة أحلى الصور في ذاكرتي ولذلك رغم شح الشغل وقلة الطلب على صور الفوري في زمن صور كاميرا الموبايل أحاول أن أقيم معرضاً لأهم الصور التي التقطها لوجوه الناس منذ سبعينيات القرن الفائت وحتى الآن باختصار أنا اشعر أنني اسكن في صوري القديمة.
وعن عدم اقتنائه لكاميرا الديجتال يقول زهرة..كاميرات اليوم دقيقة وباهرة لكنها خالية من الروح إنها سريعة وهذا شيء جيد لكنها غير قادرة على منافسة الصور الضوئية لاسيما توزيع الضوء والظلال على الأماكن والوجوه لهذا لا أفضل الديجتال لكونه استهلاكيا وغير فني ولا يحتاج إلى خبرة التصوير الحقيقية في أخذ نسبة الضوء اللازمة للعدسة.