البطاقات البريدية شاهد عصر على نضال الشعب السوري وتضحياته
تعتبر البطاقات البريدية في سورية من أهم الصيغ الثقافية والإعلامية التي أرخت لمراحل هامة من تاريخ السوريين المعاصر
وذلك عبر ما قدمته هذه البطاقات من حفظ وأرشفة لأهم الحوادث التاريخية من خلال صور تذكارية لمواقع سياحية وثقافية على امتداد الوطن كانت في عصرنا هذا بمثابة وثائق لا ترد عن نضال الشعب العربي السوري ووقوفه في وجه الاستعمار القديم والحديث في آنٍ معاً.
بدأ تاريخ البطاقات البريدية في سورية عام 1862 حين عينت الملكة فيكتوريا المصور الشهير /دي فرانسيس بدفورد/ ليلتقط اللحظات الهامة لرحلة أمير ويلز إلى مصر وسورية من العام نفسه حيث التقط بدفورد خلال هذه الجولة 210 صور بأسلوب /الكولوديون الرطب/ وكانت صوره ملخصا بصريا فوتوغرافيا لأهم المواقع السورية الأثرية كقلعة الحصن والمرقب وقلعة دمشق والجامع الأموي الكبير بدمشق وآثار قلعة شيزر وأفاميا.
وفي عام 1896 أمكن تخليد الرحلة السياحية التي قام بها الإمبراطور الألماني غليوم إلى كل من لبنان وسورية بفضل التصوير الفوتوغرافي من خلال طبعها في بطاقات بيعت في الأسواق آنذاك حيث كان الأثرياء من العائلات السورية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يقومون بشراء صور فوتوغرافية للمواقع التي يقومون بزيارتها ملصقة على ورق مقوى وهي ملتقطة بعدسات مصورين مشهورين آنذاك ليقوموا بجمعها بعد ذلك في ألبومات جميلة مجلدة بالجلد الطبيعي تحمل الأحرف الأولى لأسمائهم وتاريخ الرحلة مطبوعة بحروف بارزة من الذهب الخالص.
كما بدأت البطاقات البريدية الظهور في شتى المناطق المدن السورية في نهاية القرن التاسع عشر وبدأت معها الاستعانة بالتصوير الفوتوغرافي كمادة لإنتاجها ففي مطلع القرن العشرين انتشرت البطاقات البريدية انتشاراً واسعاً وبدأ العصر الذهبي لها مع انطلاقة معرض دمشق الدولي خمسينيات القرن الفائت فنظراً لكثافة عدد المصورين الذين تجولوا في بلاد الشام خلال السنوات التي تلت الإعلان عن اكتشاف التصوير الشمسي فإن الإنتاج الفوتوغرافي لسورية كان في المرتبة الثانية من حيث الكمية بعد أوروبا ما يؤكد على الدور الهام الذي قامت به سورية في تطور التصوير الشمسي وازدهار بطاقات الكارت بوستال.
ويضمن المؤرخ الراحل الدكتور قتيبة الشهابي في كتابه /دمشق.. تاريخ وصور/ الكثير من بطاقات البوستال التي تؤرخ لمدينة دمشق أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين إذ تمت طباعة هذه البطاقات الملونة بأسلوبين أولهما يعود إلى نهايات القرن التاسع عشر وفيه تم تلوين الصورة الفوتوغرافية يدوياً وتحضير ما يسمى الرواسم الحجرية لها حسب عدد الألوان الموجودة فيها وثانيهما ما يطبع بعد تحضير الرواسم أو الكليشات بالطرق المعروفة على نحو.."الشبكة والزنك".
ويلاحظ أن بعض المصورين السوريين لبطاقات البريد أغلبهم كانوا يتعاملون مع بعض اللوحات بالتنقيح أو الرتوش كحذف بعض التفاصيل وإضافة البعض الآخر وكانوا في بعض الأحيان يلجؤون إلى تلوين أجزاء من أسطحة المنازل باللون القرميدي الذي لم يكن له وجود في الواقع مع ظهور الورق ليبدأ شكل بطاقات المعايدة في أعياد الفطر والأضحى والميلاد يأخذ أشكالاً مميزة لدى فناني البوستال السوريين لاسيما بعد انتشار المطابع لتبدأ البطاقات الحديثة تنتشر في الأسواق الشامية منذ خمسينيات القرن العشرين تقريباً.
وتعتبر البطاقات البريدية السورية منظومة ثقافية من خلالها يمكن رصد التسلسل الحضاري والمعماري في سورية خلال قرن كامل هو عمر تلك الوسيلة الجميلة من التواصل الإنساني فهي وسيلة للتعبير عن مشاعر الحب والود والفرح وتأكيد على استمرار الروابط الاجتماعية التي تجمع الناس ببعضهم سواء كانت المسافات بينهم بعيدة أم قريبة حيث تسجل لنا ذاكرة البطاقة البريدية تاريخاً كاملاً من اعتزاز الشعب السوري بأرضه على نحو البطاقات التي أصدرتها المؤسسة العامة للبريد وما أصدرته مؤسسة الخط الحديدي الحجازي من تصويرات توثق لحياة الفلاحين والعمال السوريين وغرامهم بوطنهم وشغفهم به.
ولم تكن البطاقات البريدية في سورية عبارة عن ذكرى لمكان أو لمشهد أو لحظة تاريخية وإنما هي أيضاً شاهد على العصر الذي صدرت فيه على نحو الطابع البريدي الذي أصدره معرض دمشق الدولي للسيدة فيروز بعد أن صارت مشاركة الرحباني طقساً من طقوس المعرض الدمشقي العريق على مسرحه العريق في قلب العاصمة السورية من كل صيف.
وتكاد تكون البطاقات البريدية/الطوابع/ مرآة حقيقية لخيال الفنان السوري ومقصدا لمحاكاته الحضارية الراقية كتلك الرسوم التي قدمها كل من الفنانين نذير نبعة وأدهم إسماعيل كما أن تلك البطاقات تعتبر وسيلة تجسيد لوقائع تاريخية وتوثيقا لمعالم حضارية وسياحية وأثرية وجوانب من العادات والتقاليد لدرجة أنها أصبح مع مرور الزمن تاريخاً بحد ذاته.
وتشكل تلك البطاقات جزءاً من التراث المادي السوري يتسابق لاقتنائها هواة القديم ويهتمون بجمعها وترتيبها كما يهتم غيرهم بجمع الطوابع البريدية أو العملات النادرة وغيرها حتى وصل سعر بعض البطاقات البريدية السورية في العالم إلى أسعار فلكية مثل تلك التي ترصد صوراً من حياة ومعيش السوريين في ساحة المرجة وخط التراموي وإعدام شهداء السادس من أيار عام 1916 أو تلك التي توثق لجلاء المستعمر الفرنسي عن أرض الوطن الحبيب.
ولعل أشهر البطاقات البريدية التي توثق لمعالم من تاريخ السوريين هي بطاقة كنيسة الفرنسيسكان وجامع الخسروية وواجهة قلعة حلب وسوق الحميدية بدمشق والمدرسة العسكرية بحلب أيضا ومشاهد من البادية الشامية والأعراس الدمشقية والحلبية ونواعير حماة ومآذن المسجد الأموي بدمشق.
يذكر أن بطاقات البوستال مرت بمراحل عديدة أدخلت عليها كثير من التطوير والتنويع حيث يعود أصل هذه البطاقات إلى عصر الفراعنة الذين كانوا يستخدمون ورق البردي المزركش والملون بألوان زاهية لكتابة بعض جمل التهاني التي يتبادلها الوزراء مع بعضهم أو يرسلون بها إلى فرعون في المناسبات المختلفة.
ثم تطور استخدام هذه البطاقات مع الفتح الإسلامي للبلدان العربية وأصبح تبادلها بين الأمراء والسلاطين وسميت آنذاك /القراطيس/ التي استخدمت فيها أجمل أنواع الخطوط العربية مثل الثلث والكوفي والخطوط الهندسية وتميزت هذه القراطيس بزخارف وألوان رائعة على حوافها لكن لا يعرف على وجه الدقة المصدر الأول للبطاقة البريدية في العصور الحديثة مع أن بعض المصادر تؤكد أن أول من صمم البطاقة هو الفنان الإنكليزي /إيغلي/.