موقع رأس البسيط في اللاذقية شاهد حي على مراحل تاريخية متعاقبة
يعود تاريخ موقع رأس البسيط الأثري شمال مدينة اللاذقية المشرف من الجهة الشمالية على جبل الاقرع المعروف أو جبل
صافون في النصوص الأوغاريتية إلى حقبتين طويلتين تمتد الأولى من بدء استيطان الموقع وحتى نهاية القرن الخامس قبل الميلاد والثانية من نهاية القرن الخامس قبل الميلاد حتى مستهل القرن السابع الميلادي.
وأوضح جمال حيدر مدير آثار اللاذقية ان موقع رأس البسيط تم اكتشافه مصادفة عام 1970 وتعمل فيه بعثة اثرية فرنسية منذ عام 1971 ويرتبط اسم الموقع على الأغلب باسم بوسيدون وهو إله البحار عند اليونانيين وهذا ما يؤكده المؤرخ اليوناني هيرودوت.
ومرت على الموقع مراحل تاريخية عديدة منها عصر البرونز الحديث حيث أقامت أوغاريت فيه مرصداً يتيح لها مراقبة المسالك الجبلية والبحرية وقد تم الكشف عن مبان كبيرة تعود لهذا العصر شيدت على مساحات واسعة كما عثر على مجموعة هامة من اللقى الأثرية أهمها الفخاريات متنوعة الألوان والأشكال والتي كان ينتجها الموقع بكثرة آنذاك وعثر أيضاً على 22 قبراً فيها رماد للموتى واوان محلية ومستوردة من قبرص واليونان.
وأضاف حيدر أنه تم العثور على جدران وتحصينات ومنشآت من الحجارة الكلسية تعود للعصر الهلنستي واوان من الفخار وقطع نقدية وتحصينات ومنشآت رومانية من الحجر المنحوت والمجهز بقنوات للرفع وفي العصر البيزنطي تم إنشاء سور جديد أحاط بالسور القديم للموقع مع حصون وابراج مربعة الشكل وبنيت في الجهة الشمالية كنيسة لاتزال معالمها باقية حتى الآن وقد انصب اهتمام البعثة الأثرية الفرنسية على تلك الكنيسة التي خربتها الزلازل واسفرت التنقيبات فيها عن اكتشاف أساساتها والبهو الكبير الذي كان ينتهي بالهيكل المنحني.
وأشار حيدر إلى أن الاكتشافات أكدت ان هذه الكنيسة كانت مؤلفة من طابقين وهي من النوع البازيلكي يحيط بها سور ضخم تتوزع بداخله الغرف ما يدل أن الكنيسة كانت ديراً في نفس الوقت وتم من خلال التنقيب الكشف عن أجزاء كثيرة من نسيجها المعماري كالأعمدة والتيجان والقواعد والمنحوتات المزينة بالصلبان إضافة إلى ذلك فإن الكنيسة كانت تتوسط غابة من السنديان والبلوط وهي مجاورة لشاطئ البحر ما اضفى عليها الكثير من الجمال وجعل موقعها مشهدا تراثيا وسياحيا قل نظيره.
بدوره أوضح غسان القيم مدير موقع اوغاريت ان بعض الكسر الفخارية المسينية القديمة المشاهدة في موقع البسيط وردت من أوغاريت ومع حلول العصر الحديدي القديم ظهر نمط جديد من الخزف شبيه بخزف موقع ابن هاني الى جانب بعض المستوردات الشرقية والقبرصية وعثر ايضا على جرار فخارية إغريقية المصدر ويبدو ان الفينيقيين قد استوردوا الزيت من منطقة لفكاندي في جزيرة ايبويا اليونانية وهي تشكل حاليا اقدم المستوردات اليونانية في جميع انحاء المشرق.
ولفت القيم إلى أن الأواني الإغريقية كانت تشكل مجمل ما عثر عليه في احد القبور اضافة الى كأس تروسكي وهي الاولى من نوعها التي تم اكتشافها في مناطق الشرق الاوسط مبيناً أنه تم العثور في البسيط على اقدم كتابة باللغة الاغريقية تعود الى حوالي 700 قبل الميلاد اي ايام السيطرة الاشورية عليها بعد ذلك عمد الاغريق الى تأليف اسطورة من شأنها تفسير أصل تسمية المدينة فقالوا انها تأسست بعيد حرب طروادة من قبل عراف من آرغوس يدعى انفيلوخوس من انفياروس اطلق عليها اسم بوسيديون وهو الاسم الذي بقي ملازما لها مع الإشارة إلى أن ما يعتبره الاغريق تأسيسا ليس في الواقع سوى اعادة تأسيس.
وبين القيم أن القرن الخامس شهد فترة من الركود عاودت المدينة في أواخره نشاطها الاقتصادي ومعه حركة الاستيراد بحيث استعادت حالتها الطبيعية في غضون القرن الرابع كما تدل على ذلك المسكوكات الأروادية التي عثر عليها وفي نهاية القرن الرابع بدأت البسيط تصك نقودها الخاصة بها ويثبت ذلك اكتشاف معمل صك نقود فيها يرجع الى الفترة التي تلت مرور الاسكندر الكبير ووفاته وخلال هذه الفترة اصبح البسيط مسكوناً ومحصناً لأول مرة إلى أن سقط في يد بطليموس الأول ومن بعده في يد بطليموس الثالث الملقب بالمحسن عام 246 قبل الميلاد وتحول والخليج الذي تشرف عليه إلى محطة رسو للأساطيل المتوجهة نحو سلوقية السويدية إلا أن ذلك لم يقض على نشاطها الاقتصادي الذي استمر فيها بدليل العثور على جرة محلية تحمل اسم بوسيديون.
وأشار القيم إلى أن البسيط أصبح جزءاً من ولاية سورية الرومانية وفي غضون القرن الأول للميلاد شهد حركة عمران نشطة ما ادى الى نقل المقابر الى الوادي الغربي واحيطت البلدة والميناء بأسوار جديدة كما جرى توسيع الرصيف وتشييد المنشآت المرفئية وأقيمت البيوت الفخمة بالقرب من حصن منيع ثم وضعت نواويس تنتصب على سهل مرتفع مستطيل الشكل تقع إلى الجهة الغربية منها وتحول الحي القديم الى منطقة حرفية تصنع فيها الأوعية الفخارية الكبيرة التي غالبا ما كانت مختومة بأحرف يونانية والجرار الكبيرة والأواني الزجاجية.
وأوضح القيم أنه تم العثور على كميات كبيرة من الخزفيات الافريقية المستوردة التي حلت محلها في القرن السادس المنتوجات القبرصية وقد وجدت نحو 800 قطعة نقدية تدل على عمليات المقايضة المحلية ويعود أخر ما كشف من النقود الى فترة تسبق بقليل الفتح العربي الاسلامي وما لبثت المدينة ان هجرت من سكانها وفي سنة 1268 ركب الصليبيون الهاربون من مناطق العاصي البحر من مينائها ورحلوا.