ساروجة… حكاية قصيـدة دمشـقية
إن ثاني مدينة بُنيت على الأرض بعد طوفان نوح هي دمشق
وكانت الأولى حران. ويثبت ابن عساكر عشرات الروايات عن بداية إعمار وبناء دمشق التي احتضنت على مر العصور حضارات عريقة أبت الرحيل دون أن تترك آثارها في شوارع دمشق وأزقتها القديمة، الأمر الذي ربما يفسّر سر النشوة التي يشعر بها السائر في شوارع وحارات أقدم مدينة بالعالم.
في دمشق اليوم، عدد كبير من الأسواق الأثرية التي ما زال بعضها محتفظاً بنمطه المعماري القديم ووظيفته الاقتصادية رغم توالي السنين كسوق الحميدية الشهير والقيمرية ومدحت باشا. في حين فقدت مناطق أخرى الكثير من خصوصيتها المعمارية الأثرية نتيجة الزحف الإسمنتي الحديث، ومن هذه الأسواق ساروجة المصنّف على لائحة التراث العالمي والذي ارتبط اسمه بحي ساروجة الشهير بكونه نموذجاً رائعاً للأحياء التقليدية المميزة في دمشق القديمة من ناحية التخطيط والعمارة ولما يحتويه من معالم تحمل أهمية تاريخية وفنية كبيرة.
ساروجة.. اسطنبول الصغرى
تذكر المصادر التاريخية أن حي سوق ساروجة كان أول منطقة من دمشق بُنيت خارج أسوار المدينة القديمة في القرن الرابع عشر الميلادي في عهد الأمير المملوك سيف الدين تنكز الذي مكث في دمشق طويلاً، وإليه ترجع الكثير من الآثار المعمارية واسم الحي منسوب إلى أحد قادته وهو صارم الدين ساروجة المتوفى سنة 743 هـ-1342 م. احتل الحي مكانة مرموقة في عصره، فكان مجالاً للتنافس بين الأمراء المملوكين الذين تسابقوا لبناء المنشآت فيه، فأشادوا المدارس والجوامع والحمامات التي لا يزال الكثير منها قائماً حتى الآن، وكانت المدرسة الشامية البرانية أساساً لإنشائه حيث أخذ بالاتساع حولها تدريجياً حتى اكتمل في عهد الأمير "تنكز" وأصبح له سوق خاص به، إلا أن حي سوق ساروجة تعرّض للتخريب نتيجة صراعات الأمراء في الفترة المملوكية، مما أدى إلى دمار المدرسة الشامية البرانية برمتها وازداد الحال سوءاً بعد أن احتل تيمور لنك دمشق عام803 هـ وصار مكان الحي قاعدة لمنجنيقاته التي كانت تقصف قلعة دمشق قبل احتلالها، ولم يقف الأمر عند هذا الحي فقد قام تيمور لنك بإحراق دمشق بما فيها حي ساروجة قبل أن ينسحب منها.
مع انتهاء العصر المملوكي ودخول الاحتلال العثماني إلى دمشق أخذت الكثير من ملامح الحي والسوق تتبدل، ونظراً لوقوع الحي خارج سور المدينة القديمة فقد تميّز بسوقه الكبير ومنازله الواسعة وحماماته ومساجده الفخمة، مما دفع رجال الدولة العثمانية إلى التمركز فيه بعد أن أجلوا العائلات المملوكية منه وأطلقوا على الحي اسم"اسطنبول الصغيرة" نسبة إلى الطبقات الأرستقراطية العثمانية التي كانت تقطنه وازدهار التجارة ونمو العمران فيه. حافظ سوق ساروجة على مكانته كحي راقٍ حتى انهيار الإمبراطورية العثمانية مطلع القرن العشرين، ومع الانتداب الفرنسي قام المعماري الفرنسي ميشيل إيكوشار بوضع مخطَّط تنظيم وتحديث مدينة دمشق، فتم تصنيف جميع الأحياء الدمشقية الواقعة خارج السور كمحاضر تنظيمية والحكم على بيوتها الدمشقية بالهدم بهدف إنشاء أبراج سكنية جديدة مكانها، فكانت بداية تراجع القيمة المعمارية والأثرية لهذا الحي العريق.
ســاروجة.. بابان للحارة
يتألف حي سوق ساروجة من المحور الرئيسي وهو السوق أو السويقة ويتفرّع عن هذا المحور عدد من الحارات التي يتفرّع عنها أيضاً عدد من الدروب والأزقة الثانوية. لم تكن منطقة ساروجة تاريخياً تحتل مركز المدينة أو وسطها، فهي تقع خارج أسوار المدينة وإلى الشمال الغربي من قلعة دمشق، وكان يحدّها من الشمال منطقة البساتين الزراعية وعين الكرش، أما من الشرق فيحدّها العقيبة والعمارة البرانية (سوق الهال القديم) ومن الجنوب البحصة والسنجقدار، ومن الغرب البحصة البرانية والشرف الأعلى.
كان هذا الحي يشكل مع جواره (العقيبة، العمارة، البحصة…) تكاملاً عمرانياً هاماً خاصة بالنسبة للتطور العمراني والتاريخي لمدينة دمشق. ويعتبر المحور الواصل من باب العمارة في المدينة القديمة إلى العقيبة فسويقة ساروجة ليفضي إلى منطقة الصالحية في جبل قاسيون أحد المحاور التاريخية الهامة في دمشق، حيث كانت هذه الأرياض (الأحياء الموجودة خارج الأسوار) تتصل من خلاله مع أسواق المدينة وجامعها الكبير وبقية الفعاليات المركزية الأخرى. وكباقي الأحياء الدمشقية فقد كان الدخول إلى ساروجة يتم عبر بوابتين تسمح بالدخول مباشرة إلى هذا الحي إحداهما كانت بوابة الصالحية وهي التي كانت تصل بين ساروجة ومحلة الصالحية وبساتينها. كذلك كانت هناك بوابة أخرى من الجهة الشمالية الغربية هي بوابة عين الكرش التي كانت تصل إلى منطقة البساتين والأراضي الزراعية. أما دخول حي ساروجة من جهة الجنوب فقد كان يتوجب القدوم من البوابة الواصلة ما بين بوابة بين النهرين (ساحة المرجة) ومحلة البحصة، أو المرور بجوزة الحدباء، سُمّيت بذلك نسبة إلى شجرة جوز كبيرة متحدبة ولها أغصان مائلة في وسط الحارة، كان سكان الحارة يركبون الحمير والحناتير ليخرجوا منها وكانوا مضطرين للمرور تحت الشجرة حتى يعبروا بسلام فأطلقوا عليها هذا الاسم، كذلك كان من الممكن الدخول من البوابة الجنوبية الشرقية والمسمّاة بباب الآغا في محلة عين علي مروراً بزقاق القرماني للوصول إلى ساروجة.
يضم حي ساروجة العديد من الحارات منها حارة الورد التي سُمّيت على اسم جامع الورد الكبير المعروف باسم (برسباي) نسبة للأمير المملوكي برسباي الناصري نائب طرابلس وحلب في العهد المملوكي الذي شُيّد سنة 830هـ 1426م. كما يقع فيها حمام أثري يعود تاريخ بنائه إلى القرن السادس للهجرة أي القرن الثاني عشر للميلاد. وفيها آثار بيوت كبار الضباط العثمانيين، وفي ساحتها توجد نبعة ماء أثرية يتفرّع إلى يمينها طريق جوزة الحدباء المرصوف وفيه حمام الجوزة الذي يعود إلى القرن السادس للهجرة، وإلى جانبه مقهى الكركوزاتي الذي اكتسب هذا الاسم من عروض كراكوز وعيواظ التي كانت تقدم فيه، وتنتهي الحارة عند فندق الحرمين الذي بُني في عهد الانتداب الفرنسي ويقع بالقرب من ساحة المرجة.
أما حارة قولي فهي من أهم حارات الحي، ففي منتصفها يقع قصر العابد نسبة الى محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية السورية أيام الانتداب الفرنسي، ويتألف هذا القصر من نحو خمسين غرفة ولا يزال كرسي الرئاسة موجوداً فيه، وبعد وفاة العابد قام ورثته بتأجيره للبعثة الأمريكية وتم تحويله إلى المدرسة الأمريكية، ثم اشترى سليم اليازجي القصر وحوّله إلى المدرسة الثانوية الأهلية والتي تخرّج منها رجالات الدولة والمجتمع.
اليوم مع الأسف يفتقد حي ساروجة الكثير من روحه الدمشقية التراثية نتيجة هدم قرابة ثلث الحي، وقيام المالكين الجدد بتشيد أبنية اسمنتية حديثة شوّهت جمالية الحي لم يوقفها سوى تصنيف الحي على لائحة التراث العالمي قبل نحو عامين.
ولعل أهمية حي ساروجة تتجلّى بوضوح من خلال دراسة الإحصاءات المختلفة التي أجريت عام 1933 م – 1934م لإعداد المخطط التنظيمي الأول لمدينة دمشق والتي تضمنت مجموعة من المعلومات الهامة والطريفة في آن واحد معاً مثل: وجود أعلى نسبة لتلاميذ المدارس في ساروجة، عدد النساء يشكل تقريباً ثلثي عدد السكان الإجمالي في المنطقة، وهذه حالة فريدة وخاصة جداً. كما تبيّن الإحصاءات أنه لم يكن يوجد أي حيوانات في هذا الحي، وأن نسبة حوادث السير في ساروجة هي الأدنى في دمشق، وغيرها من الملاحظات الهامة والشيّقة والتي تدلّ على تميّز هذا الحي وأهميته، وتشير إلى ضرورة حمايته والحفاظ عليه وتشجيع الباحثين على دراسته ودراسة هذه الظواهر المتميزة والتي هي جزء هام ولا يتجزأ من تاريخ مدينة دمشق.