المخرج السينمائي ريمون بطرس: السينما السورية لم تستطع أن تقول للعالم من هي سورية
في غرفة متواضعة بنيت في الحديقة الخلفية لأحد منازل مساكن برزة يمضي المخرج السينمائي ريمون بطرس
معظم أوقاته بين أكوام الكتب وطاولة الفورميكا القديمة التي رافقت كل كتاباته بالاضافة الى سرير وبعض الكراسي الموزعة بين الغرفة والحديقة الصغيرة التي يعتبرها المقر الصيفي له.
ويستمتع بطرس بقراءة كل ما يقع تحت يديه وما يرغب فيه من صحف وكتب ولاتستهويه القراءة على الانترنت ولا الفيس بوك مفضلا تلمس اوراق الكتاب والاحساس بما تنضح به من كلام سواء كان مهما او غير مهم.
ويعود بالذاكرة الى اول علاقة له بالقراءة من خلال رواية الأم لمكسيم غوركي التي استحوذت عليه وهو في الحادية عشرة من عمره فلم يتركها قبل ان ينتهي من قراءتها ومن يومها أصبحت القراءة مكونا اساسيا من مكونات حياته اليومية فقرأ الكثير عن الشعر والشعراء بدءا من امروء القيس الى المتنبي وابي تمام والمعري وابي نواس وغيرهم.. وقرأ السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين ونهج البلاغة وابي ذر الغفاري وتاريخ بني امية وبني العباس.. وقرأ ألف ليلة وليلة وتاريخ العرب في الأندلس والجاحظ وابو حيان التوحيدي وابن رشد وابن خلدون وابن عربي إضافة إلى مختارات من الأدب الفرنسي والبريطاني والروسي والياباني والأمريكي.
ويصف المخرج بطرس في مقابلة خاصة مع وكالة سانا هذه القراءات بأنها نوافذ على العالم مشيرا الى انه تبحر في قراءة الكتب المقدسة القرآن، الإنجيل، التوراة ويجعلها في متناول يديه دائما كمرجع من مراجع الحياة.
وبشيء من الأسى يقول .. منذ عام وانا أحاول أن أقرأ ما يجري في بلادنا بعين شخص سوري حتى العظم فأنا سوري قبل أن أكون عربيا أومسيحيا أو اشتراكيا علمانيا .. انتمائي الأول هو لسورية التي هي ثمانية ألاف عام من الحضارة وأقول في قراءتي للواقع السوري الآن أن سورية بكل عظمتها التاريخية موجودة قبل وجود الديانات على الأرض .. موجودة منذ حضارة ماري وايبلا واوغاريت وعمريت وبصرى .. واتوجه بالشكر لكل اولئك الذين حفروا منذ آلاف السنين الحرف الاول في الصخر لأول أبجدية في التاريخ واستنبطوا الكلمة التي تدفقت فيما بعد شعرا وحكايات00شكري لمن لا نعرف أسماءهم ولا عناوين قبورهم.
وبالرغم من ان بطرس قدم ثلاثة افلام روائية طويلة الطحالب الترحال حسيبة وستة عشر فيلما تسجيليا وروائيا قصيرا وثلاثة مسلسلات وترجم عشرات الدراسات والابحاث والأفلام الا أنه يشعر بأنه لم يقدم سوى جزء يسير مما كان يستطيع تقديمه وهذا ينطبق على مئات بل ألاف المثقفين السوريين الذين لم تتوفر لهم الظروف الملائمة كي يحققوا مشاريعهم الثقافية وكي يسهموا في إغناء الثقافة الوطنية وبالتالي خسر هؤلاء عمرا طويلا من عمرهم القصير وخسرت البلاد جزءا من تاريخها وهذا لا يعوض أبدا.. لقد خسر الجميع الناس والبلاد من أجل أن يستفيد البعض ممن لا تعنيهم الثقافة الوطنية ولا يعنيهم الشعب ولا الوطن.
ويعود بطرس بذاكرته الى البدايات قائلا.. عندما سافرت بحرا لدراسة الاخراج السينمائي في كييف عام 1970 كانت أحلامي السينمائية أوسع بكثير من البحار التي عبرتها السفينة انذاك واليوم بعد مرور أربعين عاما اقول باسى وبحزن شديد أنني لم أحقق تلك الأحلام التي راودتني عندما كنت في العشرين من العمر.. فالعمل في السينما يحتاج الى التمويل المادي الكبير بخلاف الفنون الأخرى كالشعر والقصة والرواية التي لا تحتاج إلى أي تمويل.
والملفت أن مدينة حماة التي ولد فيها ريمون بطرس عام 1950 حاضرة في معظم أفلامه حتى صارت هاجسا يسكن كل أفكاره فقد كان ملعب طفولته على مقربة من نهر العاصي ضمن مثلث له ثلاثة مكونات .. نهرالعاصي والجامع الكبير والكنيسة ومن هناك نشأت علاقة وطيدة بينه وبين حماة ومواويل النواعير ونشأ ارتباطه بأهل حماة وناسها فهو يشعر أنه يرتبط بهم منذ آلاف السنين وهذا مادفعه لكتابة سيناريو لمسلسل عن البيئة الحموية من ثلاثين حلقة لكنه لم يبصر النور.
ولدمشق ايضا مكانتها لدى المخرج بطرس الذي قدم لها عام 2008 فيلمه التسجيلي ملامح دمشقية تلك الملامح القريبة الى قلبه مشيرا الى أن التأريخ لدمشق يحتاج الى عشرات الأفلام ولكنه حاول في هذا الفيلم أن يتلمس بعض ملامح مدينة دمشق منذ كانت بالأساس بحيرة ضفافها القابون وبرزة والغوطة.
ويرى المخرج بطرس أن السينما أو الصورة المتحركة بشكل عام هي الفن الأعظم في تاريخ الفنون من ناحية التأثير المجتمعي وامكانية التعبير عن مشكلات الناس وعواطفهم وتفاصيل حياتهم اليومية وأحلامهم وطموحاتهم.. وعندما نقول إن السينما هي سفير لبلد ما إلى أي جهة في العالم نجد ان السينما السورية لم تستطع أن تكون سفيرا لبلد اسمه سورية00 صحيح ان الدراما السورية أثرت في الاطار العربي وفي عرب المغتربات إ لا أنها لم تستطع الوصول الى الشعوب الأخرى وهنا ياتي دور السينما التي لم نعرف كيف نستفيد منها ونوصل للعالم من خلالها ان هناك بلدا احتضن عشرات الحضارات اسمه سورية.. فلا على صعيد الانتاج ولا على الصعيد المجتمعي استطاعت السينما السورية ان تقول للعالم من نحن ومن هي سورية.
وقبل بداية الأزمة السورية بأيام انتهى المخرج بطرس من كتابة سيناريو فيلم روائي طويل يتضمن ارهاصات عما جرى في سورية خلال العام الأخير ولكنه يرى أن الأحداث التي شهدتها سورية على أرض الواقع أهم وأكبر بكثير مما كتبه وهذا ما جعله بحيرة وخصوصا أن الأزمة لم تنته بعد متمنيا أن تخرج سورية من الأزمة بعد أن انهك الناس روحيا وحياتيا.. ويتحدث الفيلم عن مجموعة شباب يصورون فيلما تسجيليا عن سورية يطرحون فيه المشكلات التي يعانيها البلد من التصحر في الأرض والروح الى الفساد بكل أشكاله ومواضيع أخرى كثيرة.
ويقول بطرس ان كتاباته في الصحف المحلية خلال هذه المرحلة هي فشة خلق تنطلق من حزنه ازاء ما يجري حاليا والذي لا يليق ببلد اسمه سورية التي لم تعرف ثقافة القتل طوال تاريخها بالرغم من تعرضها لغزوات التتار والفرس والصليبيين والعثمانيين فلم يحدث من قبل ان اقتتل السوريون مع بعضهم البعض .. لقد أدخلوا صفحة سوداء في تاريخ هذا البلد لذلك انصح الأجيال الجديدة بالبعد عن التعصب الديني والطائفي والمذهبي والقومي والعودة الى صدر سورية الوطن والأم وكم نحن بحاجة إلى العقلانيين الذين يترفعون عن الايديولوجيات والطوائف والمذاهب ويترجمون هذا الترفع على الأرض.
وعن تجربته في الترجمة من الروسية الى العربية وبالعكس يقول إن الترجمة هي دخول الى عوالم أخرى مختلفة وهي تكسب الانسان غنى معرفيا وثقافيا وتضيف الى معرفته ثقافة ومكونات البلد الذي يترجم لغته وبالمقابل يقدم للاخرين صورة عن ثقافة بلاده.
ويتمنى المخرج ريمون بطرس للخريجين الشباب الذين يريدون امتهان السينما ان تتاح لهم الفرص من قبل المؤسسات الرسمية وشركات القطاع الخاص لتحقيق احلامهم وتقديم كل ما يسهم في إغناء السينما السورية. لقد اختصر بعض النقاد شخصية ريمون بطرس بكلمة واحدة هي الشغف إذ بلغ شغفه بالاشياء حدا يصعب فيه الفصل بين الشخص والموضوع فهو ينغمس في موضوعه ويحارب من أجله انطلاقا من حرصه على قول كلمته التي تؤكد حبه للحياة وتقديره لكل لحظة فيها فضلا عن حبه للناس وحضورهم الدائم في حياته وهذا ما يكسب أعماله حرارة انسانية قل نظيرها.