نزار قباني في ذكرى رحيله الرابعة عشرة.. غياب يعرش ياسميناً في شوارع دمشق
يتمتع الشاعر الراحل نزار قباني بحضور قصيدته عبر أجيال متنوعة من متذوقي الشعر سواءً من حيث حضور هذه القصيدة كنص شفاهي أو حتى عبر الأغنية العربية التي أفادت كثيراً من شعبية ووضوح
نصوص القباني التي قاربت الملحمة الشعرية الرعوية وعبرت عن أحاسيس الملايين من عشاق الأرض والإنسان.
كما يعتبر شعر قباني من النصوص الشفاهية التي حافظت على كينونتها عبر الصوت الذي تمثل في إلقاء هذا الشاعر العبقري لقصائده بصوته في أكثر من مناسبة فالقصيدة القبانية لا تكتمل إلا بجعلها صوتاً يخرجها من خرسها على الورق إلى وجودها الفيزيائي أو ما يسمى باللوغوس (المنطوق المعقول) داعماً ذلك بقوله.. (ما أقسى القصيدة التي لا تلقى.. إن طعمها في الحلق يصبح كطعم العصفور الميت).
ولهذا يعتبر النقاد أن قصيدة نزار هي قصيدة الصوت وليست قصيدة الكتابة حيث الأماسي الشعرية هي من سمح لهذه الموهبة بالظهور والتحقق عبر صوت الشاعر (ذاته) مبررين كلامهم بأن شعر (نزار) يحيل أشياء العالم إلى أصوات تغدو في متناول الشاعر ويتجلى ذلك بقوله.. (تصبح يد حبيبتي مكان يدي.. وفمها كتاباً أقرؤه قبل أن أنام.. ودبوسها المنسي على الطاولة.. حمامةٌ لا تريد أن تنام).
وما يثير الانتباه في شعرية نزار الحضور الطاغي لدمشق كمكان وكعشيقة أبدية للشاعر ما برحت تحفر في صوته وجسده إذ خص قباني هذه المدينة بكتيب طارت شهرته في كل أرجاء الأرض بعنوان (دمشق.. نزار قباني) حيث يقول الشاعر عن هذا الكتاب.. (دمشق نزار قباني ..عنوان يشبهني أكثر من كل التصاوير التي أخذت لي منذ ولادتي حتى اليوم.. عنواناً يجعلني محفوراً في ذاكرة الناس كما رباعيات الخيام وسونيتات بيتهوفن وخمريات أبي نواس).
ويتجلى عشق نزار لدمشق من خلال عدة مقطوعات شعرية لعل أهمها قصيدته المعنونة بـ (دارنا الدمشقية) التي يرسم عبرها دمشقه الصغرى وبيته العتيق الذي ولد فيه في 21 آذار من عام 1923 يقول قباني في هذه القصيدة.. (هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطرٍ.. بيتنا كان هذه القارورة.. ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر بل أظلم دارنا.. والذين سكنوا دمشق.. تغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة.. يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون).
ورغم سفر الشاعر الكثير بسبب عمله في السلك الدبلوماسي وابتعاده عن دمشق لسنواتٍ طويلة إلا أن نزار قباني يردد..(أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي وحنجرتي وثيابي وظللت ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته كل ما في أحواض دمشق من نعناع وفل وورد بلدي).
وتحتل المرأة في شعر قباني مكان الصدارة من خلال تكثيف العالم في هيئة امرأة معشوقة كما في مجموعاته الشعرية التي بدأها بديوانه الأول (قالت لي السمراء 1944) و(يوميات امرأة لا مبالية 1968) و(قصائد متوحشة 1970) حيث تتربع الأنثى على الخطاب الشعري لنزار دامجاً بينها وبين الكون والحياة والمصير يقول قباني (بعينيكِ يبدأ تاريخ الفرات.. ويبدأ حزني الجميل الذي يتكلم سبع لغات.. ويبدأ عشقي العظيم الذي.. يتسلقِ جدارنكِ كالنبات).
كما تتحول المرأة في النص الشعري القباني إلى هيئة الأرض ولأنها الأنثى الأرض تصير هذه المرأة كائنا سحريا يقبع بين الممكن والمستحيل لتؤسس المكان بحضورها اللامرئي ولتصبح مكمن المعرفة والمغامرة يقول نزار.. (أحبكِ قبل الأنوثة.. بعد الأنوثة.. شرق الأنوثة.. غرب الأنوثة.. يا امرأةً لا أراها.. ولكنها في جميع الجهات).
وتغدو الأنثى المستحيلة في شعر نزار تاريخاً للجمال والجميل من خلال مفردات امتاز بها نصه الشعري على نحو.. (الحرير.. الياسمين.. الطيور.. الزهور.. العطر.. العصافير..) عابراً بذلك إلى الأنثى المتعالية بذاتها التي ستنقرض الحياة بلا وجودها في حياته ولتصير المرأة هي الثبات والضمان لفعل الحياة ذاتها ولتاريخ هذه الحياة يقول نزار (لأشهد أنكِ آخر بيتٍِ من الشعر يروى.. وآخر مروحةٍ من حرير.. وآخر طفلٍ في عائلة الياسمين).
واستطاع نزار على امتداد حياته المليئة بالتناقضات أن يكون المعبر الحقيقي عن تناقضات خطاب العرب في النصف الثاني من القرن العشرين ناسفاً بكل شجاعة جملة من البنى التقليدية التي ألفها الناس منذ زمنٍ طويل عبر حريته وتمرده وما شغل به البال العربي والتفكير والمشاعر والأحاسيس.
ويعد شعر نزار قباني ضمن مفهوم الحداثة من نوع إسقاط صفة القداسة عن الأخلاق الموروثة محاولاً من خلال التساؤل أن يبحث عن نثرية العالم في جسد المرأة المغيب مسقطاً الطابع التجريدي للأخلاق عابراً بالمرجعية الاجتماعية من السلطة على الحب إلى موضع حرية الحب المعاش عبر الحب ذاته ليتحول المجرد إلى مشخص عبر تدمير المطلق التاريخي من خلال الصور الجسدية ليصبح الجسد هو المرشح لكتابة التجربة من حيث أن هذا الجسد أصبح استعارة وتمثيلات لما هو خارج ومهمش ومغيب ومطموس سياسياً واجتماعياً وثقافياً.