شركات دواء عالمية تمتنع عن توريد المواد الأولية إلى سورية
حين يتمعن المرء جيداً يجد وجهاً ناصعاً لسورية في كثير من المجالات، من ضمنها الصناعات الدوائية التي كان لها بصمة واضحة على طريق التطوير والتقدم، في هذا المجال حيث تحتل
المرتبة الثانية بعد الأردن في مجال تصدير الدواء، ويوجد فيها 69 شركة لصناعة أدوية مختلفة الحجم والطاقة الإنتاجية، فكيف استطاعت هذه الصناعة أن تستمر رغم كل الصعوبات التي واجهتها في ظل الأوضاع الحالية، وما هي الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لدعم هذه الصناعة، وعن كمية الأضرار التي لحقت بهذا القطاع وحجم الصادرات ووضع معامل الأدوية وتأثرهم سواء أكان من حيث كمية الإنتاج والتكاليف ووضع العمال ومعرفة ما إذا تم إيجاد أسواق جديدة للتصدير؟ أسئلة عديدة تستحق معرفة الإجابة عليها:
فتح أسواق جديدةمديرة الشؤون الصيدلية هند سباعي قالت: إن وزارة الصحة تدعم الصناعات الدوائية بشكل دائم من خلال رفع مستوى الجودة وتحقيق أفضل ش
روط التصنيع الجيد وفق المتطلبات العالمية، كما ساهمت بالمساعدة من أجل تسجيل وترخيص المستحضرات الدوائية، ما أدى إلى حصول الدواء السوري على سمعة جيدة، وفتحت له أسواق كبيرة للتصدير. وتضيف: في ظل هذه الأزمة تعاونت الصحة مع وزارة الاقتصاد والتجارة ومصرف سورية المركزي، وبعد عدة اجتماعات صدر قرار اللجنة الاقتصادية الذي يسمح بتمويل المصرف لمستوردات المعامل المحلية من مواد أولية ومستلزمات إنتاج ما يخفف من عبء الأزمة على هذه المعامل.
مديرة الرقابة الدوائية في وزارة الصحة ميساء نصر ، تؤكد أن كمية صادرات الأدوية تراجعت، فمعامل الأدوية كانت تصدّر إلى الكثير من الدول العربية، لكنّ العقوبات والقرارات من قبل بعض الدول أدت إلى امتناعهم عن الاستيراد من القطاع الخاص، أما الدول الأخرى المستمرة في الاستيراد فتعاني من مشكلة تحويل الأموال بسبب العقوبات على البنك المركزي والمصارف السورية التجارية.
وتضيف: على الرغم من تراجع حجم الصادرات تحاول وزارة الصحة أن تساعد المعامل في فتح أسواق خارجية من خلال (عقد اتفاقيات، بروتوكولات) مع دول صديقة منفتحة تعلم حقيقة الوضع في سورية.
وآخر ما تم فيما يتعلق بذلك هو زيارة وزير الصحة إلى بيلاروس التي تمت خلالها دراسة إمكانية تصدير الدواء إليها ولاسيما أن الصناعات الدوائية في سورية متطورة أكثر من بيلاروس في بعض المنتجات وتغطي تقريباً 93-94% من حاجة السوق، في حين أن بيلاروس تغطي فقط 60% من حاجة سوقها والـ40% يتم استيرادها من دول أخرى، وجزء منها تنتجها معاملنا ومتقدمة في تصنيعها، فتم الاتفاق لإيجاد آلية لتسريع عملية تسجيل مستحضرات المعامل المحلية للتسويق، وتوجد حالياً خطوات من قبل وزارة الصحة باتجاه (كوبا والجمهورية الإسلامية الإيرانية) لفتح أسواق جديدة.
وأشارت إلى أن وزارة الصحة تتعاون مع كل المعامل لتجاوز الأزمة لتكون الأضرار في الحد الأدنى، فالمعامل السورية وطنية بحق حيث إنها لم تقم برفع أسعار الأدوية، فالأدوية التي ارتفعت هي المستوردة والتي تسعّر حسب سعر صرف الدولار في السوق السوداء، ولم يتم إغلاق أي معمل ولا تسريح أي عامل، وبقي الإنتاج على حاله قبل الأزمة.
بالمقابل فإن وزارة الصحة قدّمت تسهيلات لهذه المعامل لتحقق القليل من التوازن لهم حيث أصبح تمويل المواد الأولية التي تدخل في الصناعات الدوائية عن طريق البنك المركزي بسعر صرف الدولار الرسمي وليس بسعر السوق السوداء.
صعوبات مصرفية
أما مدير عام شركة تاميكو للصناعات الدوائية ناهدة أندورة فتؤكد أن الشركة تأثرت بالأزمة كبقية الشركات بسبب العقوبات الاقتصادية، حيث تقوم الشركة بتأمين جزء كبير من مستلزمات إنتاجها من شركات أجنبية وهي تتعرض لصعوبات مصرفية بالتعامل مع هذه الشركات تتمثل بصعوبة إصدار الكفالات الأولية والنهائية، إضافة إلى أن بعض الشركات الموردة تعاني صعوبة في قبض قيمة البضاعة نتيجة توقف بعض المصارف عن التعامل مع المصرف التجاري السوري، إضافة إلى أن بعض المصارف المراسلة لم تقم بتبليغ الاعتمادات المفتوحة عن طريق المصارف الخاصة وتالياً تداول المستندات مع المستفيد لأن المصرف المراسل يطبق العقوبات ضد المصارف السورية، أيضاً سوء الوضع الأمني في بعض المناطق أدى إلى صعوبة كبيرة في نقل الطلبيات من منتجات الشركة، ما انعكس سلباً على استجرارات القطاع الخاص، أما بالنسبة للقيمة المادية لهذه الأضرار فلا يمكن تقديرها حتى الآن.
وتضيف: ان الشركة تعمل على تطوير أدائها على المستويين النوعي والكمي من خلال الأبحاث المستمرة لدراسة أضابير مستحضرات جديدة تواكب تطور الصناعة الدوائية ومتطلبات السوق المحلية ويتم في كل عام طرح المستحضرات المكتملة، والبعض الآخر لايزال قيد الإنجاز.
وستتم إعادة تأهيل مبنى الأدوية وفق الخطة الاستثمارية الموضوعة للشركة لعام 2012 ووفق متطلبات GMP، ما سينعكس على بيئة العمل بشكل إيجابي، إضافة إلى تحديث وتجديد الخطوط الإنتاجية، ما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتحسين النوعية.
وتؤكد أندورة: إنه بالرغم من زيادة التكاليف، إلا أن الشركة لم تقم برفع أسعار مستحضراتها، وذلك حسب تعليمات وزارة الصحة ومراعاة الظروف العامة.
ومن الصعب في ظل الظروف الراهنة فتح أسواق جديدة بسبب صعوبة المشاركة في المعارض الداخلية والخارجية والاحتكاك مع المعنيين، وتسعى الشركة لفتح أسواق خارجية مع بعض الدول الصديقة.
بدائل الاستيراد والمواد الأولية
يقول جهاد سالم حربالي- أستاذ في جامعة دمشق قسم الكيمياء الصيدلية والمراقبة الدوائية: إن سورية الدولة الوحيدة في العالم الثالث التي تمتلك نوعاً من الأمانة الدوائية وقد ازدهرت الصناعة الدوائية فيها من انفتاح وتشجيع للصناعات الدوائية ودعم للقطاعين العام والخاص، وتالياً أصبح لدينا كمّ هائل من المعامل وخبرات كبيرة تراكمت مع الوقت.
ويضيف: إن الأزمة انعكست بشكل سلبي على معامل الأدوية نتيجة الحصار الاقتصادي والتلاعب بأسعار الدولار لخلق نوع من البلبلة فأصبحت المواد الأولية المستوردة أغلى، ما جعل المنتج أمام نارين، التصنيع بسعر ثابت لأن المواطن لا ذنب له في هذا الارتفاع، ولكن هذا سيضر صاحب المعمل، فربحه سيقل وسيطالب بزيادة السعر، ولكن معاملنا لاتزال تراعي خصوصية الأزمة وشعور المواطن، ولم يتم رفع سعر أي دواء، وضحّت المعامل بجزء من أرباحها مقابل تثبيت السعر.
ومن المؤكد أن الإنتاج والتصدير خفّ قليلاً، لكن لم يقم أي معمل دوائي بتسريح عماله ولم نصل إلى هذه المرحلة رغم أن قطاعات أخرى قامت بذلك.
ويؤكد حربالي أنه لا يوجد أي دواء محلي مفقود، وإنما من الممكن أن يكون هناك نقص عابر لفترة محدودة، فمعامل الأدوية لديها دورات صيانة، ما يؤدي إلى انقطاع طفيف في صنف معين، لكن يوجد لدينا بدائل دوائية كثيرة لمعامل أخرى فلا أعتقد أن لدينا أزمة إلا بعدد محدود من الأدوية التي تمثل 5% والتي لا نصنعها ونستوردها (كأدوية السرطان) وبالنسبة للمواد الأولية فهي متوافرة ولسنا معتمدين على أوروبا بالكامل، فلدينا بدائل من الهند والصين، وتالياً لا خوف على الصناعة الدوائية.
ويضيف: إن وجود هذا الكم من معامل الأدوية في دولة تعداد سكانها (23) مليون نسمة هو بالتأكيد نتيجة دعم من الدولة وتشجيع للقطاعين العام والخاص، فالحكومة لم تبخل في دعم صناعة الأدوية، فكثير من المعامل تستورد موادها الأولية بالقطع الأجنبي والدولة تدعمهم بهذا القطع وهو دعم هائل بلاشك، وبرأيي أن كلا القطاعين تأثر بالأزمة، لكن القطاع العام أكثر كون الدولة تدعمه ومسؤولة عنه، فهو يستوعب الغلاء أكثر بكثير من القطاع الخاص.
وأشار حربالي إلى إنه يوجد في سورية أصناف كثيرة من الأدوية متشابهة بالجرعة والاستطبابات نفسهما، وتمنى على وزارة الصحة أن تقوم باختيار (5 معامل فقط) تعدّ الأفضل لذلك، وأن تبحث بقية المعامل التي لديها القدرة لعمل أشكال صيدلانية من (مضادات سرطانية) لا نقوم بتصنيعها إلى الآن ويحضرون لهذه التكنولوجيا، فنحن لدينا الكثير من التجارب الناجحة كالأنسولين الذي يعد من الأدوية الحيوية المهمة لمريض السكري والذي أصبح يصنع لدينا، ففي مثل هذه الأزمة عندما يتم منع استيراد دواء غير موجود لدينا فهذا يهدد حياة الكثير من المرضى.
ضغط الشركات العالمية
يقول د.زهير فضلون- رئيس المجلس العلمي للصناعات الدوائية الوطنية: إن الصناعة الدوائية هي جزء من الصناعة الموجودة في سورية، وتالياً تأثرت بالأزمة لأن جزءاً كبيراً منها يعتمد على مواد أولية ومستلزمات إنتاج مستوردة من الخارج، فالاستيراد يعني تأمين المواد وتحويل ثمنها بالقطع، وتأمين شحنها إلى البلاد، فالمهم في الصناعة الدوائية تأمين هذه المستلزمات والمواد في الوقت المناسب للإنتاج، تنفيذاً للخطة الإنتاجية وتلبية لحاجة السوق، تالياً عدم تأمين المادة الأولية في الوقت المناسب يعدّ خللاً في السوق الدوائي.
وبسبب العقوبات الاقتصادية بدأ جزء كبير من الشركات كالشركات الأميركية أو التي هي جزء من أسهمها أميركي يرفض التصدير إلى سورية، فكان لا بد من البحث عن مصادر أخرى للمواد الأولية رغم أن الصناعة الدوائية لم تذكر صراحة ضمن العقوبات.
إضافة إلى أن بعض شركات الشحن إما ترفض شحن المواد مباشرة إلى سورية أو ترغب شحنها إلى دول مجاورة وأصبحت تطلب أجوراً مرتفعة أكثر من المعتاد، كل ذلك أثّر على تكلفة الإنتاج والخطة الإنتاجية بدرجات متفاوتة حسب المواد الأولية ومصدرها، لافتاً إلى أنه عندما تضطرب الخطة الإنتاجية تصعب تلبية طلبات التقدير بشكل سريع، تالياً الكثير من الشركات التي تستورد من سورية أصبحت تبتعد عن الالتزام بذلك.
بالنسبة لقيمة صادرات الأدوية كان بين (210 و 250) مليون دولار بالسنة، وهو رقم كبير تقديرياً، انخفض تصدير الدواء السوري بنسبة (40 إلى 50 %) خاصة خلال 6 إلى 8 شهور ماضية وهذا انعكاس فعلي على القدرة الإنتاجية للبلاد التي انخفضت بحدود (40%) لكن حاجة السوق المحلية ملباة بالكامل والنقص يكون بالقدرة التقديرية وبأحد الأصناف فقط.
وأضاف، بالتأكيد لا بد من البحث عن مصادر أخرى للمواد الأولية وهو ما يستدعي (الاتجاه شرقاً) باتجاه الهند والصين والدول التي تقبل التعاون معنا، أما بالنسبة للدول الأوروبية فلا تزال بعض الشركات متعاونة لكن أسعارها مرتفعة، ويضيف: في بداية الأزمة قام المجلس العلمي بتعهد مع كل المعامل (ميثاق شرف لمعامل الأدوية) مبني على عدة بنود هي: عدم تسريح أي عامل، وعدم تخفيض القدرة الإنتاجية في حال وجود المواد، تأمين إمداد الدواء إلى كل المناطق قدر الإمكان، وتجميد المطالبة برفع الأسعار في الوقت الحاضر، فقبل الأزمة كانت هناك مباحثات لرفع أسعار الأدوية وتعديلها بناء على التكلفة، فالدواء هو السلعة الوحيدة التي لم تتغير أسعاره منذ حوالي 15 عاماً، لكن كنوع من المساهمة في حل الأزمة وعدم تشكيل عبء على المواطن اتفقت المعامل على تجميد المطالبة برفع الأسعار قدر الإمكان وليس إلى ما لا نهاية.
وأكد فضلون أن جميع المعامل ملتزمة بكل هذه البنود إلى الآن، رغم أن بعض المعامل اضطرت إلى إيقاف إنتاجها كلياً كفترة زمنية في مناطق التوتر، لكن بقي العمال فيها يتقاضون أجورهم والآن عادت كل المعامل إلى الإنتاج، مشيراً إلى إن الحكومة وافقت على تغطية استيراد المواد الأولية للصناعات الدوائية فقط بالسعر الرسمي للقطع.
وأشار إلى أن اتفاقية بيلاروس لم تأخذ مجالاً للتطبيق حالياً، فالأسواق الجديدة يجب أن تتم بدعم سياسي وهو موجود في بيلاروس، في الحقيقة المجلس العلمي هو من بدأ التعاون مع بيلاروس وليس وزارة الصحة حيث تم توقيع الاتفاقية لتصدير الدواء وتصنيعه بشكل مشترك منذ حوالي عام ونصف.
وأشار إلى أن هذه الاتفاقية عززت في الزيارة الأخيرة التي قام بها وفد مشترك من وزارة الصحة والمجلس العلمي عبر الاتفاق على إقامة معامل مشتركة في بيلاروس وبالوقت نفسه تساعد بيلاروس في تسجيل الدواء السوري لديهم وفي تصديره إلى روسيا وكازاخستان ودول أخرى، فهذا السوق يوجد فيه حوالي 250 مليون نسمة وإن أثمر سيكون سوقاً جيداً جداً للدواء السوري.
ولفت فضلون إلى أن المعامل السورية لديها القدرة على إنتاج أدوية جديدة وحتماً ترغب في ذلك لكن هذا يحتاج إلى جهد مشترك بين وزارة الصحة والصناعات الدوائية ودعم وتحفيز من قبل الحكومة بشكل عام، فبعض الأدوية يكون إنتاجها غير اقتصادي لكنها مهمة استراتيجياً لأن كمية إنتاجها محدودة والتقنيات المستخدمة فيها عالية، والتكلفة والنوع، ومعرفتها تكلف كثيراً، وتالياً يجب دعم هذه الخطوط الإنتاجية من خلال تسهيل التسجيل، وأن يكون التسعير مجدياً اقتصادياً للمعمل وتالياً يمكن للمعامل أن تكلّف بإنتاج هذا النوع من الأدوية، مشيراً إلى أن بعض المعامل حصلت على ترخيص لإنتاج الأدوية السرطانية، لكن ذلك يحتاج إلى وقت ودعم حكومي وتحديد للأولويات وتقديم حوافز للمعامل التي تنتج مثل هذه الأصناف، فهذه الأدوية يجب أن تؤمن للمواطن وتوجد خطوات عملية لذلك.
حالياً لا توجد اتفاقيات لكن عملية البناء هي على الاتفاقيات القديمة، ففي الواقع هناك اتفاقيات كثيرة وقّعت على الورق بين الحكومة السورية وحكومات أخرى يصل عددها لحوالي (33 اتفاقية) لكن عملياً على الصعيد الرسمي لا توجد أية اتفاقية نفذت على أرض الواقع والسبب هو عدم المتابعة من الجانب السوري وليس من الطرف الآخر.
وقال: الدواء السوري موجود بحوالي (59 دولة ومنظمة عالمية) لكن وجوده كان نتيجة جهود المعامل الدوائية وليس نتاج جهد رسمي فالمعامل الدوائية هي التي تفتح أسواقاً لها وتصدر، تالياً نحن موجودون لكن المهم أن نحافظ على موطئ قدمنا.
جرعة دواء
في الختام يتطلع المواطن السوري إلى أن تحافظ الصناعة الدوائية على جودتها وتطورها وأسعارها مهما اشتدت الظروف وذلك من منطلق إنساني ليس إلا، ولتبقى سورية موجودة وبقوة كما اعتدنا عليها، وأن تتعاون وزارة الصحة مع كل الجهات المعنية لدعم وتطوير هذه الصناعة بشكل دائم، فحياة الكثير من المواطنين يمكن أن تتوقف على جرعة دواء.