بطرس المعري يمسرح أوقات الفراغ في صالة تجليات
لا حدود فاصلة بين الحياة والكاريكاتير في أعمال الفنان السوري بطرس المعري فشخوص اللوحات تبدو منسجمة مع إيقاعات الحياة اليومية وأوقاتها العليلة حيث يتحول الضجر إلى كائن له أوصافه
الخاصة في علاقته مع اللون والضوء والظلال عبر نسيج من الرسوم التي يقدمها المعري وجهاً لوجه مع الأمكنة والملامح المسخية لكائناته السابحة في فراغ الحكاية.
جملة من الأشياء اكتشفها الفنان في إقامته بباريس يقول.. تلك العلاقة الحميمية التي كانت تجمعني مع سكان الأحياء الدمشقية القديمة ولم أكن أدري بها هل هي حب أم حنين.. مهما يكن الجواب فهؤلاء الأشخاص قد لحقوا بي إلى هنا ودعوني إلى عالمهم الخاص دعوة ليست ككل الدعوات فقد انسل الحكواتي منهم إلى المساحات البيضاء في أوراقي حاملاً معه كتابه المخطوط وبعضاً من جمهور السميعة المخلصين لسيرة عنترة أبو الفوارس. ويتابع المعري متحدثاً عن معرضه /في أوقات الفراغ/ الذي افتتح أمس الأول في صالة تجليات.. نرجيلة وكوب من الشاي على الطاولة المعدنية الممشوقة القوام هي قصص أشخاص تمددوا تعلقوا أو علقوا.. فمنهم من يحلم بدعة ومنهم من يتعذب ليغيبوا في النسيان ويغيب الراوي معهم.. إنه لاشك في كل ذلك حنين إلى تلك المدينة البعيدة الحاضرة لكن هناك أشياء أخرى فباريس التي حررتني من الوصايا العشر لأساتذة الفن في مشرقنا لا تدعني أعمل بحرية كونها تتدخل لتضفي ألواناً على تلك الخطوط والمساحات السوداء قالبة الميزان قاسمة إياي إلى نصفين. تركز أعمال المعري على السيرة الشخصية لحكواتي الحارات الدمشقية القديمة دامجة فن السرد الشعبي بسرد اللون عبر صياغة شخصيات تقترب في تنفيذها على سطح اللوحة إلى فنون متعددة أهمها التصميم الإعلاني والغرافيك وفن الكاريكاتير خالصة إلى مجازات بصرية عالية في محاكاتها الساخرة واللطيفة للبيئة التي خرجت منها تلك الشخوص لتطفو بين طاولات الزهر وكاسات الشاي وقرقرة مياه النراجيل لنكون أمام ما يشبه مناخاً نفسياً متكاملاً عن أجواء المقهى الدمشقي القديم.
وتحضر تقنيات شخصية الحكواتي كمبرر لمسرحة شخوص المقهى وأناسه الملتبسين في أزيائهم الموحدة والمشدوهين أمام عنجهيات بطل السيرة وحبه العذري لعبلة في الملحمة الشعبية الشهيرة في حين تتجسد مستويات مركبة لكتابات الجدران في الحارة الشعبية متضافرة مع أبيات للشاعر محمد الماغوط من كتابه /حزن في ضوء القمر/ جنباً إلى جنب مع قصص زكريا تامر ولاسيما مجموعته القصصية الشهيرة /النمور في اليوم العاشر/ لنشاهد تحت عنوان /السماء المفقودة/ في لوحة /كتاب صورة العصفور غير الموجود/.. ونقرأ في اللوحة التي يمزج فيها /المعري/ بين طائر الغراب وطربوش الراوي ورقعة الشطرنج مقطعاً من قصة /تامر/.. حط عصفوران على غصن شجرة من الأشجار المنتصبة على جانبي أحد الشوارع ولم يغردا مرحبين بشمس الصباح إنما تبادلا النظرات الوجلة الحائرة وقال أحدهما للآخر.. أين نطير.. سماؤنا احتلتها الطائرات لم يبق لنا سوى الأقفاص.. سننقر أجنحتنا.. وسننسى الغناء
ويهرب الفنان من التأويل والشرح المباشر والبسيط للنص مبتكراً عالماً موازياً يحتمل الشطط مثلما يحتمل الندية لكن أعماله هذه لا تسلم على ما تحمله من رصانة في اختيار مواضيعها من سخرية وعبث نجد فيها قيمة تعبيرية لا ريب فيها حيث ينسحب هذا الشيء أحياناً على البناء المعماري المبني غالباً بالأبيض والأسود ليخضع هو الآخر لنزوات هدامة عبر رؤوس يعلوها طربوش أو القبعة البيضاء الشعبية لكنها تبتعد في أشكالها عن التأليف السياحي الذي يتناول سكان الشرق. كما يعشق المعري ريبورتاجاته البصرية بمقطعيات شعرية لاسيما في لوحة /كتاب لأنسي الحاج/ فنقرأ.. في كل مرة رميت نفسي من أعلى الجبل.. ليبتلعني الوادي.. كانت تستقبلني العيون أحضان المعجزة.. سميتك سرية الوليمة.. يا سرية.. فضلاً عن شغله على كتاب /مدارات أدونيس/ عبر ما يشبه أغلفة الكتب التي يوقعها الشاعر السوري برقيمات من الحبر المنشى على مساحة اللوحة لنكون أمام تقنيات مختلطة على القماش والإكريليك مجسدة الوصايا العشر المعروفة باللغتين العربية والفرنسية. ويتذكر الفنان على غرار الكاتب الفرنسي جورج بيريك لوحاته المنقوشة التي تكتب لائحة ذكرياته خلال إقامته في فرنسا حيث تقول عنه الناقدة الفرنسية /آنك شانترل ليلوك/.. نظرة المعري تعمل كمصفاة مضحكة وساخرة إذ يتوقف عند مشاهد من حياة الشارع الباريسي المترو المقهى والناس الذين يتدافعون كي يصلوا إلى منازلهم قبل نشرة الأحوال الجوية وأخبار الساعة الثامنة والنصف عبر مشاهد هي كغمزة عين ترصد جزءاً من الواقع العمراني والاجتماعي والثقافي الفرنسي.
وتضيف الناقدة ليلوك ملقبة المعري بشاعر الشظايا.. الكلمات والملصقات بطاقات الدعوة النشرات وقصاصات الصحف هي الرسائل المكتوبة على اللوحات تشرح لتؤكد على المعنى كما في القصص الشعبية السورية التي يستمد منها بطرس استيحاءاته من خلال طبيعة منطوية فهو قليل الكلام لهذا ربما يمارس الكتابة على اللوحات أما النصوص فتمتلك لديه حساً تشكيلياً لا شك فيه. يذكر أن المعرض يستمر حتى العاشر من حزيران والفنان المعري من مواليد دمشق 1968 يحمل إجازة في الفنون الجميلة قسم الحفر والطباعة 1991 ودكتوراه في مجال فن الكتاب المصور من باريس 2006 وهو مدرس في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق وله معارض فردية ومشتركة في دمشق وباريس وفرانكفورت وهامبورغ الإسكندرية وبيروت.