تبعيةُ المصارف تعود إلى طاولة الجدل.. ملفٌّ قديمٌ بأمبلاج جديد!!
مع فصل التجارة الداخلية عن الخارجية وإفراد وزارة لكل منهما، تفتح مرة أخرى سيرة إعادة المصارف إلى عصمة الوزارة الوليدة (الاقتصاد والتجارة الخارجية)
ضمن الرؤى الجديدة القديمة لوزارة خرجت (بخفّي حنين) من منازلات مطوّلة عن أحقية التبعيّة والإشراف، وغرقت في غراميّات "الترشيق" الإداري، وتنازع الصلاحيّات وأحياناً تعارضها.
قرار نقل مرجعية قطاعات (المصارف والتأمين والجمارك) لتُصبح تحت إشراف الوزارة الجديدة بدلاً من وزارة المالية، والذي هو قاب قوسين أو أدنى-على ذمة عصفورة الحكومة الجديدة- يأتي بعد فكّ أسر مصرف سورية المركزي من أغلال وزارة الاقتصاد والتجارة -المنحلّة- إلى رئاسة مجلس الوزراء، في محاولة لرأب الصدع بين السياسات الاقتصادية والتجارية من جهة، والسياسات المالية والنقدية من جهة أخرى.
جديدُ هذا الملف ذي الجدوى الافتراضية، قد يتمخض عن إدارات ومديرين يلحظون تباطؤ الأجندات التنموية عموماً، وتآكل دائرة التسليف المصرفي خصوصاً، فضلاً عن تفصيل آليات الإقراض على مقاسات ثلّة أكلت البلد لحماً ورمته عظماً. من جديد هذا التصويب "المرجعي" أيضاً، (نفض) الوزارة المترهِّلة (نفضة) كاملة، وإغلاق باب الاكتتاب على "صكوك الغفران" الإداري والقانوني، علّها تقطع دابر المحرك الوهمي الذي وقف خلف تقلبات سعر الصرف المتكررة، وتكبح جماح الوذمات التضخُّميّة التي تأتي سبّاقة لأي ارتفاع في المستوى العام
للأسعار.
مشروع القرار أو القانون الجديد، الذي يجيز نقل تبعية المصارف العامة من طاعة بيت المال إلى وزارة الاقتصاد، إن صدر، يخشى أن يكون إجراء تُصبُّ عوائده في خانة الخدمات المجانية للمصارف المتخمة بالسيولة وليس للتنمية، حتى لو أُدرج المُعلن تحت لافتة (التكامل في وضع وتنفيذ السياسات الاقتصادية الكلية).
تكامل
ترمي وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية من وراء هذا الطرح غير الاستثنائي، إلى إعادة السياسة النقدية الضائعة إلى جادة الصواب بعيداً عن المصرف المركزي -الذي احتفل باستقلاليته على شرف استمرار نزيف خميرة البلاد من النقد الأجنبي- والذي اضطرته متواليات التخبُّط إلى تعويم العملة، مع تخطّي الدولار حاجز المئة ليرة.
مشروع القانون المزمع -حال إقراره- يعيد للوزارة ألقها القديم، التموين سابقاً، ويشركها بقوة في تنسيق السياسات الاقتصادية مع المالية والنقدية والتجارية، مع تشديد القبضة على سعر الصرف في ضوء عجز من ادّعى الاستقلالية عن التصدّي للشقيعة وانكفائه.
إن تحقيق حالة من التناغم والتكامل -لا التجاهل كما تعوّدنا- بين السياسات النقدية والمالية والاقتصادية في هذه المرحلة، بات ضرورياً أكثر من أية مرحلة، وذلك أن انتفاء هذه الحالة يعني أننا لم نصل إلى مرحلة النضوج الاقتصادي.
حسم الجدل الدائر خلف الكواليس حول أحقية تبني المنتج المصرفي التائه بعدما تيتّم على أيدي "شخصانيّين" في وزارة المال، من شأنه أن يبيّض فأل المصارف العامة، التي استفادت -والكلام لأحد المسؤولين في الحكومة السابقة- من مساحة المسؤولية التي منحها وزير المالية الأسبق لإداراتها، بغية تطوير نفسها كخيار لا ثانيَ له.
ومع ذلك يبقى السؤال قائماً: ماذا لدى وزارتي المالية والاقتصاد لتقدماه للمصارف العامة بشكل عام، والخاصة على وجه التحديد في ظلّ إدارة "المركزي" الفعلية للقطاع المصرفي؟!.
تجانسٌ حقيقيّ
بعيداً عن مبررات وزارة الاقتصاد السابقة، وادعائها أن الوضع شبه المستقر للاقتصاد السوري في المرحلة الحالية، لا يعود الفضل فيه إلى السياسة النقدية، إذا أُخذ بعين الاعتبار ما قامت به من أعمال دعمت الأخيرة بشكل غير مباشر، فالسياسة النقدية -على لسان وزير الاقتصاد السابق- ليست وحدها التي حققت الاستقرار في سعر الصرف، وإنما هذا النجاح حققته السياسة الاقتصادية.
وقد يكون هذا المسوّغ مقنعاً لتقحم وزارة الاقتصاد -وخليفتها حالياً- حرمة النقد، مقارنة مع الاجتهادات المصرفية (العديمة الجدوى) التي أدارت السوق بعقلية غير مسؤولة، ولاسيما أن اللجنة الاقتصادية وافقت على تبعية المصارف لها.
إن تحقيق تجانس حقيقي بين السياستين المالية والنقدية، وفقاً لأستاذ التحليل الاقتصادي في جامعة دمشق، الدكتور قيس خضر ، يغلق باب الجدل الدائر حول أحقية أي جهة بتبعية هذه المصارف، وذلك أن الأخيرة يُنظر إليها على أنها المنافذ الرئيسة لتنفيذ السياسة النقدية في البلاد، التي ترتبط بشكل رئيسي بالمصرف المركزي الذي يأخذ على عاتقه مسؤولية رسم هذه السياسة، ويوعز إلى المصارف بتنفيذها.
إتباع هذه المصارف إدارياً لأيٍّ من وزارتي المال أو الاقتصاد، أو لشخص وزيرهما، أو حتى للمصرف المركزي -والكلام للدكتور خضر- هو أمر أقل أهمية من أن تكون هذه المصارف تعمل ضمن إطار سياسة مالية ونقدية متجانسة تجانساً حقيقياً. فالخلل الأساسي، برأيه، لا يكمن في عمل المصارف وتبعيتها، بل في السياسات النقدية الضبابية وغير المتجانسة والمتكاملة مع السياسات المالية، إذ يفترض للأولى أن تحدّد أطر عمل هذه المصارف.
الأمران سيّان
إعادة تبعية المصارف للوزارة الوليدة، ورصد مدى كفاءتها في إدارة هذا القطاع، وذلك في إطار مرحلة التصويب الجديدة لآليات عمل إدارة وإقرار السياسات النقدية، من وجهة نظر الدكتور مظهر يوسف، أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق، في حديثه مع "صدى الأسواق"، لا تقدم ولا تؤخر فالأمران سيّان.
إن إتباع المصارف سواء لوزارة المالية أم الاقتصاد، أم أية جهة أخرى، كما يرى الدكتور يوسف، لا يهم، فالأساس هو الأداء، وعلى فرض أن إدارتها أسندت للأخيرة، فإن إشرافها سيكون إدارياً، مع تأكيد أن تُتبع لوزارة وليس لشخص الوزير كما حدث سابقاً، لأن ذلك يفتح الباب على مصراعيه أمام المحسوبيات وتزايد سطوة الوزير ورجالاته، واتساع دائرة النفوذ أكثر، ولاسيما أن الداء الأخير ينتقل من وزارة إلى أخرى، ومن وزير إلى آخر، ومن حكومة إلى أخرى، تماماً كما قوانين التعاقب والتسلسل الهلامي.
وفي رأي الدكتور يوسف، حل هذه الإشكالية، يبدأ بتأهيل وتدريب الموارد البشرية في المؤسسات المصرفية، بدءاً من رأس الهرم، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، والاستعانة بأهل الاختصاص، ما يقطع الطريق على أية اجتهادات أو مطالبات من هذا النوع.
تركةٌ "سايبة"
عينُ الاقتصاد الآن على المصارف التابعة لوزارة المال، لكن السؤال: هل ستتنازل الأخيرة عنها زلالاً حلالاً؟ بعد أن أقامت "الدنيا ولم تقعدها" في سبيل الإشراف عليها الذي تطور لاحقاً إلى هيمنة، ومن ثم تهديد بمطرقة "السريّة المصرفيّة".
حتى اللحظة الوصيُّ الشرعيُّ على الخزينة العامة، لا يمانع في عودة المصارف الحكومية إلى عهدة الاقتصاد، فالمصارف ليست تركة توزَّع بين وزارة وأخرى، على حدّ قول محمد جليلاتي وزير المالية في لقاء سابق له. أما موضوع تبعيتها وفقاً له، فيعود إلى استقلال المصرف المركزي عن وزارة الاقتصاد في العام الماضي بموجب المرسوم 21 ليصبح الراسم الأوحد لسياسات النقد، ومستشاراً مالياً للحكومة.
المصارف العامة في رأي الوزير، جزء من المصارف العاملة في السوق السورية، ولابد لها أن تدار تقنياً وفق السياسة النقدية التي يضعها مجلس النقد والتسليف، لكن عندما استقل "المركزي" وتم ربطه برئيس مجلس الوزراء، نُقلت إلى عهدة وزارته مع تأييده إلحاق هذه المصارف بالمصرف المركزي، لكونه المسؤول تقنياً وفنياً عن تحقيق السياسة النقدية، أما الإشراف الإداري فيمكن أن تقوم به أيُّ جهة.
على أيّ حال، إذا كان بيت المال لا يعارض انفصال المصارف عن وزارته أو عن شخص الوزير، فلتعقد قراناً مشروعاً شريطة ألا يبخسها حقها من يحظى بها، فما الغاية من هذه الجعجعة والدخول في ترّهات لا تغني ولا تسمن من جوع، فضلاً عن تبادل التهم تشفياً بعضهم من بعضهم الآخر في السر والعلن؟.
في الجهة المقابلة إن صدقت الرؤية، ونُقلت التبعية لوزارة الاقتصاد، فهل سيكون بمقدورها أن تدير هذه المصارف بعد سنوات من الترهّل الإداري، والخلط الوظيفي، والتداخل القانوني، وتنازع الصلاحيات، فضلاً عن امتلاكها كوادر جاهزة على دراية كافية بالمنتجات المصرفية وتطويرها؟ أم إن التبعية أقرب ما تكون لشخص الوزير من الوزارة أسوة بالعرف القديم؟.
انعدامُ المسؤوليّة
تبعيّةُ المصارف العامة العلمية والتقنية والفنية هي حصراً للمصرف المركزي، هذا ما حققه بيت المال لها، وبناء على ذلك ثمة تساؤل مشروع مفاده: مَن يتحمل تبعات تبادل الأدوار بين المالية والاقتصاد أو أي متخاصمين آخرين حول أحقية التبعية والتبني في وقت يفترض فيه، أن تكون جهود جميع الوزارات مسخّرة لإعادة الحياة إلى مفاصل الاقتصاد الوطني، وتفعيل المعطل منها لا أن تغوص في "دويخات لت وعجن" مجانية؟.
إن ضحية هذه العروض غير المتكافئة لأسباب معروفة وأخرى مجهولة، كانت دوماً نظامنا المصرفي بسبب تبعية العام منه لوزير المالية من جهة، والخاص للمركزي من جهة أخرى، ما جعله ذا رأسين وزارة المال الوصي إدارياً على مصارفه الحكومية، والمركزي على مصارفه الخاصة.
جدلٌ عقيم
بفضل تنازع الصلاحيات هذا وتشابك الكثير منها، أصبح لدينا نظام مصرفي مشوَّهٌ لا يقوم على أسس علمية، وإنما بناء على أزمات وتوجهات شفوية وسياسات تراكمية تستوجب التدخل السريع لضبط اختلالات في سوق لا نعرف من يلعب بها، في حين أن رأس الهرم النقدي يفترض به، أن ينظم السوق ويضبطها لا أن يغرق في التخبُّط والكيدية حتى أخمص قدميه، همّه رد الاعتبار القديم والإثبات أنه ليس وعاء ادخارياً يلجأ إليه المعنيون عند أول وعكة صحية تصيب الموازنة العامة لتصلح موجوداته ما أفسدته سياسات الإنفاق غير الرشيدة، كما يحصل الآن.
ففي عزّ الأزمة، والاتجاه نحو ضغط النفقات يتجدد جدل تبعية المصارف وأحقية تبنيها، وكأنها آخر ورقة عالقة من وريقات اقتصادنا ذي الشجون المتشعبة، علماً أن المؤشرات المبدئية توحي بأن "الجدوى" من هذا الإجراء غير الاستثنائي تتفوق على تطبيقه، بعد طلاق لم يرتقِ إلى درجة البينونة الكبرى بين المتخاصمين.