الأهل و الأبناء و جدلية الصراع
“أهلي لا يفهمونني ولا يقيمون لرأيي أيّ اعتبار”.
" والديَّ موضة قديمة ولا يصلح تفكيرهما لهذا الزّمان الذي نعيش فيه!!"
"أهلي رجعيُّون ومُتخلّفون وغير ديمُقراطيين، يفرضون رأيهم وسُلطتهم قسراً لأنّهم يصرفون علينا!!".
"أنا أُخفي أموراً كثيرةً عن أهلي لأنّهم لن يفهموها ولن يتجاوبوا معها"
!" أهلي لا يهتمُّون إلاّ بأنْفُسهم وحتّى لو احترقتُ أو انحرفتُ فلَن يفرق الأمر معهم شيئاً!!". عبارات مثل هذه ـ شديدة القَسوة ـ نسمعها من شباب كثيرين، أولاد وبنات!!.
تُرى هل هم مُحقّون في ادّعاءاتهم أم يُجانبهم الصّواب؟ هل هُم جُناة أم مجنيّ عليهم؟ وهل الآباء أيضاً مُذنبون؟ أم تُراهم قد وُضِعوا في قفص اتّهام خلف منصّة القضاء زوراً وبُهتاناً من دون إثمٍ كانوا قد ارتكبوه؟!!.
هل المُشكلة حديثة أم قديمة؟
بل هي مُشكلة قديمة قِدَم الحياة البشريّة أصلاً. فشبابنا ربّما نجدهم اليوم يشكُون من قلّة بهم مع أهاليهم أو فهمهم لهم، لكن إن رجعنا بذاكرتنا للوراء، فسنرى أنّنا نحن أيضاً ـ بشكل أو بآخَر ـ مررنا في مرحلة ما من مراحل طفولتنا أو مُراهقتنا بنفس هذا الشّعور، وربّما قدّمنا نفس هذه الشّكوى التي يُقدّمها شباب اليوم. نعم، فهذه هي الحقيقة. قد تختلف طريقة التّعبير أو يختلف الأسلوب، لكنّ الظّاهرة تبقى واحدة وإن اختلفت طُرق التّعبير أو التّنفيس عنها ومواجهتها.
أسباب المُشكلة
هي كثيرة ومُتعدّدة ومُتشعّبة، وهي تختلف من بيئة لأُخرى، بل من عائلة لأُخرى ومن بيت لآخَر، طِبقاً للتّقاليد والأعراف والقِيَم والتّوجُّهات التي تحكُم الأفراد. لكنّها على اختلاف أنواعها قد لا تخرج عن عُنوان عامّ تندرج تحته مجموعة من الأسباب والظّواهر. هذا العُنوان العامّ هو ما يُسميّه عُلماء الإنسان المُتخصّصين، "صراع الأجيال"!. فالمجتمع ككُلّ، كما الإنسان الفرد، يتغيّر دوماً، وحركته هذه إنّما هي حركة ديناميكيّة دؤوبة لا تعرف السُّكون أو التّوقُّف. وبين كلّ جيل وجيل نحن نعرف يقيناً، أنّ تغييراً فكريّاً وتكنولوجيّاً وثقافيّاً ليس بالقليل (بل هائلاً!) يكون قد حدث. ومن ثمّ فإنّه يكون أمراً طبيعيّاً أن يشعر كلّ من الآباء والأبناء (كلّ من جهته ومن وجهة نظره)، أنّ الطّرف الآخَر غير مُحقّ في طريقة تفكيره وغير قادر على التّفاعل أو التّواصل مع جيله وطريقة تفكيره، لأنّ كلا الطّرفَين غير قادر على التّكيُّف أو التّأقلُم أو مُقابلة الآخَر، على نفس السُّلَّم المعياري والأخلاقي والقِيَمي والثّقافي الذي يوجد الآخَر عليه. ومن ثمّ تبقى المُشكلة قائمة!، بل وفي مرّات كثيرة، وطبقاً لسرعة التّغيُّر والأزمات الاقتصاديّة وما يُصاحبها من ظواهر ومُشكلات اجتماعيّة و…. ألخ، تكون النّتيجة أن تزداد المُشكلة حدّة وصعوبة!!.
أخطاء من جهة الأهل
يتعامل الأهل مع الأبناء في مرّات كثيرة ـ حتّى عندما يكبرون ـ على أنّهم أطفال، لابدّ لهم لكي يتّخذوا أيّ قرار في حياتهم ـ صغيراً كان أم كبيراً ـ الرّجوع لآبائهم. بل ويُملي بعض الآباء قرارات سياديّة فوقيّة على الأبناء، يعتبرونها واجبة التّنفيذ من دون مُناقشة أو حوار أو إقناع، فيحرمون أولادهم من تعلُّم الخبرات ومن التّمرُّس على اتّخاذ القرارات وتحمُّل تبعاتها، بل ومن حقٍّ إنسانيٍّ طبيعيٍّ ألا وهو حقّ الإنسان في مُمارسة الحُريّة في حياته واختيار طريقه بنفسه! (وهو الحق الذي أعطاه الله نفسه للإنسان!). وسلوكيّات كهذه من جهة الآباء لابدّ لنا أن نُحذّر منها ونعرف أنّها لا تكون في الطّريق الصّحيح أبداً، بل أنّها تزيد المُشكلة بين الآباء والأبناء سوءاً واحتداماً.
أخطاء من جهة الأبناء
أمّا من جهة الأبناء فإنّه لزاماً علينا أن نقول أيضاً، إنّهم يجب أن يأخذوا بعين الاعتبار وبكلّ التّقدير نصائح ذويهم لهم. تلك النّصائح الخالصة والعامرة بالمحبّة والتنزُّه عن أيّ هوى أو غرض شخصيّ، والمُمتلئة من خبرة الحياة وتجارب الأيّام. لكنّنا نجد بعض الأبناء لا يُلقون بالاً لنصائح ذويهم أو يحيدون عنها تماماً، إمّا عناداً أو تكبُّراً وازدراءً وادّعاءً لحُسن الفَهم وتقدير الأمور، لكنّهم كثيراً ما يدفعون ثمناً غالياً لذلك فيما بعد!.
النّتيجة الطبيعيّة وراء الصّراع القائم
إن لم تتمّ مواجهة المُشكلة فإنّها تزداد حدّة وصعوبة، فيزداد تباعُد الأهل عن أولادهم والعكس صحيح. وتزيد الفجوة في التّفكير ممّا يجعل كلّ طرف لا يتقبّل الآخَر ولا يجد طريقاً للتّجاوب معه، بل ويُلقي كلّ طرف من الأطراف بعِبء السّبب في المُشكلة على الطّرف الآخَر!، ومن ثمّ يُؤدّي هذا أخيراً إلى انهيار العلاقات وتفكُّك الأُسَر والكثير من المُشكلات الأخلاقيّة والنّفسيّة والاجتماعيّة، التي يكون لها تأثيرها السّلبي على الطّرفَين معاً، وكذلك على الأفراد أنْفُسهم ومُجتمعاتهم!!.
هل من علاج لهذه المُشكلة؟ وما هو؟
نعم يوجد علاج، في حال وجود الإرادة والرّغبة الخالصة للوصول إلى حلّ. والعلاج هو أنّه ينبغي عليهم أن يسعوا جاهدين ـ كآباء وكأبناء ـ كلّ من جهته، كي يبنوا جسوراً مُشترَكة يصل من خلالها كلّ طرف فيهم للآخَر. وأن يظلّ باب الحوار مفتوحاً بينهم دوماً، حواراً صادقاً وأميناً ومُخلِصاً، يرغب كلّ طرف ـ من خلاله ـ أن يفهم ويتفهّم الطّرف الآخَر، وأن يستمع له باهتمام واحترام بالِغَين، لا لكي ينتقده أو يُهاجمه ويُفنِّد آراءه، بل كي يجدا معاً أرضيّة مُشتركة يقفوا عليها معاً، ونموذجاً واحداً واضحاً للتّآلُف والاتّفاق، لأنّنا نعلم جميعنا أنّ قارباً واحداً بذاته يجمعهم معاً، وأنّ أيّ نجاح سيحصدون نتيجته معاً، كما وأنّ أيّ خطر مُحدِق بهم يُمثِّل سقوطاً مُروِّعاً لهم جميعاً. هكذا فإنّ الأمر جدّ خطير، ويستلزم منهم اتّحاداً واتّفاقاً تامّاً وعملاً مُشتركاً بينهم ـ بِيَدٍ واحدة ـ لدَرء الخطر المُحدق بهم.
نصيحة للآباء: ربُّوا أولادكُم في خوف الرّبّ وفي طاعته. أَحسنوا تربيتهم لأّنّهم عطيّة الله المُبارَكة لكم. ازرعوا فيهم بِرّاً ومخافة الله وتقوى، فتحصدوا فيهم خيراً وبَرَكةً وصلاحاً. صلُّوا معهم ولأجلهم فتضمنوا لهم السّلامة هنا وفي الأبديّة.
نصيحة للأبناء: لا تحتقروا آراء والِديكم ولا تستخفّوا بها، لأنّهم يُحبّونكم ويُريدون خيركم ونجاحكم. انتبهوا جيّداً لوصاياهم وتعاليمهم لأنّ خبرتهم في الحياة أكبر. قدّموا لهم حُبّاً وولاءً واحتراماً وتقديراً وطاعةً كما لله، وأعطوهم الكرامة اللائقة لأنّهم مُستحقُّون.