كاظم فاضل كتب لزهرة سورية : ملح الرجال
كل شيء من حولي يدعوني للحزن .. الطرقات .. الأحاديث .. الضحكات المتعبة .. الوجوه .. الأصوات .. الأمكنة .. نشرات الأخبار .. التحليلات
. التأويلات .. التوقعات .. الكتب .. المجلات .. وحتى الموسيقى والأغاني ….
لعل الفرح قرر أن يحمل حقائبه ويهجر دروبي .. كما قال أحد الأصدقاء
لكن ما أعرفه أن السماء حُبلى بالغيوم ..!؟
الإنسان خليط عجيب من المتناقضات والألوان والخفايا والأسرار .. لدرجة يصعب معها رسم ملامح حقيقية له .. حتى عندما يحاول هو ذاته فعل ذلك .. فالمسألة أكثر صعوبة مما يعتقد بعض علماء النفس
والفلسفة …
قد يكون للجغرافية أو المكان تأثير نسبي بهذا الواقع .. لكن يبقى الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان وفي كل العصور بغض النظر عن أسمائها ..!؟
الظلمة والنور .. الخير والشر .. الغدر والوفاء .. الحقد والتسامح .. الكذب والصدق .. وغيرها من التناقضات .. تقبع في درجات وأمكنة مختلفة … ولا تموت هذه التناقضات أبداً إلا بموت صاحبها .. أي بمعنى أن أيّاً منها قد يطفو على السطح في أية لحظة أو ظرف مناسب ليغدو هو الأصل والحقيقة الناصعة .. في حركة وتبدل وتقلب لا تتوقف .. والفترة الزمنية بين كل " محطة " وأخرى إذا جاز التعبير .. تختلف من إنسان لآخر … وتبعاً للظرف والحالة والهدف أو الغاية المراد الوصول إليها …
هذا التوصيف " الإشكالي " له مدلولاته وأبعاده وآثاره ونتائجه وظروفه خاصة .. في شرقٍ متخمٍ أصلاً بالتناقضات والهموم والجراح والآلام …
من غير أن يعني ذلك مكان بعينه …
ومدينة أفلاطون الفاضلة .. لم تأت من وهم أو سراب ؟؟
البعض يعتبر مثل هذا الكلام مجافٍ للحقيقة و لا قيمة له بجميع الأحوال … والبعض الآخر يعتبره تعميماً لحالة خاصة … وآخرون يعتبرونه ميزةً تمكن صاحبها من التكيّف مع كل الحالات والظروف …
بينما يربط البعض ذلك بفهمه الحياة على أنها المتغير والمتجدد في كل اتجاه …
والجميع على صواب …
ما يهمني هو الكذب كنقيض لقناع الصدق طبعاً .. أو " ملح الرجال " كما يحلو للكثيرين تسميته على مرّ العصور والدهور …!؟ كتأشيرة دخول دائمة السريان والفعالية .. في كل التفاصيل والأمكنة والموائد !!
كم هي الحياة صعبة وقاسية عندما تسكنك الشمس .. لكنك لا تجد من يستحق أن تشاركه إياها ..!؟
كم هي الحياة صعبة وقاسية عندما تسكن عقلك وفكرك قدرةٌ نابضةٌ .. لكنها تبقى وحيدةً وبعيدةً .. فلا دروب أو سماء أو سبيل لها ..؟
كم هي الحياة صعبة وقاسية عندما تحيى وأنت تسمع ولا تسمع .. ترى ولا ترى .. تضحك ولا تضحك .. تحزن ولا تحزن .. تقرأ ولا تقرأ .. فما من شيء حقيقي يدور حولك وبلا قناع إلّا الموت والولادة …!؟
لست متأكداً تماماً ما هو السبب الفعلي من وراء اختراع جهاز لكشف الكذب ولكن لا بد من الاعتراف بأن هذا الاكتشاف العظيم سيكون له دور غاية في الأهمية في المستقبل القريب … ولا أستغرب أن يتم اختزال هذا الجهاز العجيب بعد فترة من الزمن على شكل برنامج إلكتروني يسهّل استخدامه في المقهى و البيت والحديقة ومكان العمل …..
" فملح الرجال " صار سيد كل الموائد … نكهته لا تقاوم .. وغدا حاجةً ضروريةً لا يمكن الحياة من دونها !! مع تقبّل نقيضه كقناع أو بريستيج اجتماعي ؟؟ لا أكثر ولا أقل …
المشكلة الآن .. أنك و أمام هذا الواقع الزاهي الألوان .. صار من المحال عليك أن تعرف قناعات وميول الناس الحقيقة في السياسة على سبيل المثال لا الحصر … وهل هم يساريون أم يمينيون أم قوميون أم اشتراكيون أم بورجوازيون أم راديكاليون أم علمانيون أم وحدويون أم عروبيون أم أميركيون …؟
أم خليط من كل هذا وذاك !
وهذا ينطبق حتى على ما يسمى الطبقة المثقفة أو النُخَب !؟
فهم أيضاً يعملون بهدي المقولة الشهيرة : لكل مقامٍ مقال ؟
سيأتي حتماً ذلك الزمان الجميل الذي يمكنك فيه أن تحمل جهازك الخاص للكشف عن " الصدق " قبل وبعد وأثناء كل حديث أو مأكل أو مشرب ..
لكنني أتمنى ألّا يتأخر ذلك كثيراً … فالسماء حُبلى بالغيوم
وأشياء أخرى …
أذكر هذه الأبيات الجميلة للشاعر فاروق جويده :
لِما لا نقول حبيبتي قد مات فينا العاشقانْ
لِما لا نقول حبيبتي قد ضلَّ فينا الراهبانْ
فالعطر عطركِ .. والمكانُ هو المكانْ
شيءٌ تكسّر بيننا …
لا أنتِ أنتِ … ولا الزمانُ هو الزمانْ