الجهلُ … نورن
أعلم أن أساتذة اللغة العربية سيقفزون عن كراسيهم غاضبين إن سمعوا بهذا العنوان الخرافي ولسببين : الأول : يعود لاستبدال العلم .. بالجهل في حكمةٍ تاريخيةٍ تتوارثها الأجيال عن ظهر قلب ودون أي إدراك لمعناها الفعلي .
أما السبب الثاني فهو الخطأ اللغوي " الكبير ".. الكائن بوضع حرف النون مكان التنوين … علماً أنني تقصّدتُ فعل هذا خدمةً للهدف الأسمى !؟ والذي هو نشر الجهل !؟
فمن قال أن العصر الحجري وما قبله من عصور ليس جميلاً ولا ساحراً !
صحيح أن الأجداد كانوا يعانون ويجاهدون لتأمين حاجاتهم وغذائهم وكسائهم للبقاء أحياء في الصحراء وعلى ضفاف الأنهار .. ثم يعودون قبل أن تغيب الشمس إلى كهوفهم ومغاراتهم .. " والتي ليس لها أبوابٌ تحميها " .. ويغطون بنومٍ عميقٍ !؟
وهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء .
وعندما تناديهم أشعة الشمس للاستيقاظ .. معلنةً عن بدء يوم جديد يخرجون لأعمالهم وتأمين قوْتهم وقوْت عيالهم .. وهكذا دواليك إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
لكن ما الذي جاء به العلم للإنسان والبشرية !؟ وجعل الكثيرين يلعنون تلك العصور الغابرة الموحشة الكئيبة والمظلمة !؟
لعل اختراع الكهرباء يعتبر من أهم ما قدمه العلم .. إن لم يكن الأهم على الإطلاق فمن غير السيدة كهرباء لا تدب الحياة ببقية الاختراعات رغم أهميتها …
ليس ذلك وحسب … فمع مرور الأيام صار الإنسان لا يطيق العيش من غيرها حتى لو بضع ثوان … وأصبحت حياته رهينةً لها …
فرحيل هذه " السيدة " التي لا مثيل لها على وجه الكرة الأرضية يعني في ما يعنيه أن أجهزة التحكم في المنزل أصبحت لا جدوى لها … والتلفاز وما أدراك ما التلفاز تحول لجثة هامدة من غير الكهرباء .
عند هذا الرحيل يستذكر الناس " أهل زمان " في إشارةٍ مباشرةٍ تعبر عن الاستغراب الشديد من قدرة الأجداد على الحياة في تلك العصور .. وبغيابٍ دائم للسيدة الساحرة ؟
فما الذي يعنيه هذا الحضور أو الغياب كعلامة فارقة ومميزة .. للحياة في العصر الحالي .. عنها في تلك الأيام !؟
أعتقد أن الإنسان " الحالي " يستطيع التكيف على العيش من دون كهرباء في كل شيء … إلّا التلفاز !!
فهذا الاختراع العجيب … دخل البيوت خلسةً ومن غير استئذان … ومثلما يقال بالعامية / تمسكن ليتمكن / ! وأصبح في ليلةٍ وضحاها هو السيد وهو الآمر الناهي!؟
كأنه كل الدنيا.
إلى هنا والأمور كانت مقبولة نسبياً .. لكن هذا الزائر المقيم لم يقف عند هذا الحد ؟
فأعين الناس لم تعد تعرف النوم .. وهي تتنقل بين مئات المحطات بحثاً عن خبرٍ عاجلٍ من هنا أو هناك .. في حالةٍ من التوثب والتشنج والقلق.
لقد أخذ هذا الكائن " الماكر" من الناس وقتهم و راحة بالهم وسكينتهم وطمأنينتهم مقابل حفنةٍ من كلامٍ وصور !؟ وهم يجهدون للوصول .. دون أن يعلموا إلى أين بالتحديد !؟
لست متأكداً من أن أرواح أجدادنا تحسدنا على كل ما بين أيدينا من تقنيات و تطور علميّ مذهل في كل المجالات .. لكن ما أنا متأكد منه أننا أصبحنا عبيداً حقيقيين لها !؟ ومن غير أية قدرة على الخروج من هذه الدوائر المغلقة بإحكام .
الغريب أن العلم يتقدم ويتطور لكن على حساب حياة الإنسان وجوهر وجوده وإلا كيف يمكننا أن نفهم كل هذا التوق المتصاعد لمشاهدة الدم والعنف والقسوةسس ؟
كيف يمكن لنا أن نفهم هذا الشعور بالغربة في المكان والزمان وانغلاق الفرد على نفسه وذاته في حالةٍ من العزلةِ تنتهي فقط على أعتاب رفض الآخر بكل الإمكانيات والوسائل والسبل ؟
ما زاد في الطين بلّه هم أولئك " المثقفون " الذين نهلوا من بحر العلوم وتعاملوا مع الثقافة على أنها قراءة أكبر قدر ممكن من الكتب والمؤلفات .. فتحولوا إلى ما يشبه المخزن أو الحافظة لتلك الآداب المختلفة فقط لا غير ؟ ولم تنعكس على أخلاقهم وممارساتهم وسلوكياتهم وأفكارهم ..؟ بمعنى أنهم أبقوا على عتمة عقولهم وعوالمهم الداخلية البدائية وكأنها لم تتذوق طعم النور مطلقاً !؟ بل أكثر من ذلك حصّنوها لتبقى عصيّةً على الانخراط بالحركة والفعل و الخلق! إلّا فيما يخدم مصالحهم الأنانية الضيقة .. وبشكلٍ يؤمّن لهم ألق الحضور في كل المناسبات والفصول!؟
ومعه بات من الصعوبة بمكان أن نحدد ما تبقى من مخزون الإنسانية في داخل كل واحدٍ منا .. بمعزلٍ عن التسميات والشكل الخارجي والصوت !؟
مسكينٌ هذا الشرق .. النوافذ فيه لا تُفتح إلّا للعتمة والظلام.
مسكينٌ هذا الشرق .. يبتلع ذاكرته بسهولةٍ ويسر كل مساء!؟
مسكينٌ هذا الشرق .. العواصف لا تغادر شطآنه !؟
مسكينٌ هذا الشرق ….. مسكينٌ هذا الشرق …..