كاظم فاضل كتب لزهرة سورية : سيف من ورق
أينما حلّ تفوح رائحة أشهر أنواع العطور و أثمنها و أكثرها سحراً و جاذبية .. وعندما يتخذ قراره النهائي بالتحدث و الكلام يجيء صوته هادئاً و رخيماً و آثراً ..
كأنه الغيم ..
أما في منزله " الدافئ " فكل شيء و مهما كان صغيراً فله قصة ما أو حكاية تشبه الخيال أو المدى الذي لا حدود له .. كأنه الحلم ..
وقبل خروجه لتناول وجبة في مطعم " و كما المقاهي " فلا بد من أن تكون منتقاة بكل دقة و عناية و التي تبدأ بطبيعة المرتادين و اهتماماتهم و لا تنتهي بتوفر أنواع محددة من الشراب و الطعام و المقبلات المختلفة ..
أما مظهره الخارجي فهو حريص على أن يرتدي المختلف و المميز من الأزياء والذي يتناسب مع الصورة العامة أو " البريستيج الخاص به "..
يصرّ على بقاء يديه نظيفة و معقمة تماماً كأيدي أطباء الجراحة و كذلك على أن تكون حركتها بطيئة و رصينة كما حديثه و تنقّله ..
تستهويه الموسيقى الكلاسيكية الحالمة لبيتهوفن و شوبان .. وغيرهما حيث يجلس على كرسيه الخشبي العتيق " الهزاز " و يسترخي عليه مسافراً إلى ما بعد القمر .. أو قبله بقليل ..
تشده رائحة الكتب و الجرائد و المجلات خاصة تلك التي تحمل بين جنباتها الفكر و الأدب و السياسة .. والتي يصرّ بشدة على تكديسها بكثرة في كل زاوية من البيت ..
أما شعره فلا بد من تركه مبعثراً .. و بما ينسجم مع الحالة المفترضة أو المتصورة بشكل عام ..
لكن الأهم من ذلك كله هو اعتقاده الجازم أن كل كوارث و مشاكل الكون ومنذ بدء الخليقة سببها الأساسي و الحقيقي هو عدم الأخذ بأفكاره و رؤاه و طروحاته ..
و أن سقف الحريات المنخفض جداً منعه بل لم يسمح له أبداً أن يقول ما يريده إلّا في السر أو أمام عدد محدود من الأشخاص " المقموعين " مثله وفي جلسات سمر و فضفضة لا تقدم و لا تؤخر في الأمر شيئاً .. و أن عقوبة التعبير عن الرأي أشد بكثير من عقوبة أي لص أو مرتكب .. ويختم حديثه بجدلية الوعي و الحرية .. و أيهما يجب أن يتحقق أولاً.
" المثقف " العربي و في حقيقة الأمر لم تكن الظروف العامة المحيطة به على أحسن حال .. وفي كثير من الأحيان كان ضحية الأوضاع السائدة .. شأنه شأن كل المكونات المجتمعية الأخرى وعانى ما عاناه من تهميش و تضييق.
وهذا ما دفعه ربما للانعزال و العيش على تخوم الضجيج و الصخب و الزحام ..
وعمل على خلق هامش و عوالم خاصة به تتيح له الاستمرار و البقاء و الحضور.
إلى هنا و الأمر مفهوم و مبرر و إن كان موضع اختلاف و جدل .. لكن ما لا يفهم أو يبرر هو إصرار و تمسك هذا " المثقف " بالبقاء في عزلته و صمته و عالمه و برجه العاجي .. وكأن الحكاية لا تعنيه .. وأنه ليس منها ولا هي منه في شيء!؟ بالرغم من كل ما حصل و يحصل!؟
لا أحد ينتظر منه تغيير أو تبديل قناعاته و مواقفه السياسية الخاصة به ولا حتى مناقشته بها .. لكن الأفق بات مزروعاً بأسئلة كبيرة و كبيرة جداً تتجاوز حدود أي اختلاف أو حتى خلاف؟ بدءاً من الوطن مروراً بالإنسان و مبرر وجوده و حقه في الحياة وصولاً لقيم الحرية و العدالة و المساواة.
فالثقافة تحمل في ثناياها رائحة الإنسان و عرق جبينه وذاكرته و مشاعره و مخاوفه و هواجسه و آماله بالأمس و اليوم و الغد .. وهي خبز الحياة الذي لا ينضب.
والكلام في زمن الكوليرا و الحرب يشبه الحب في هذين الزمنين .. لكن أي منهما ليس مبرراً للصمت أو الانطواء أو الخروج من أبواب الذات الخلفية مهما كانت الحسابات و الخفايا.
المضحك المبكي في آن معاً هو أن الناس لا زالوا مستعدين و متقبلين لمشاهدة المدافع و الرشاشات المتنوعة أمام منازلهم و في حاراتهم و حدائقهم .. و سماع أصواتها المزلزلة .. مع بقائهم رافضين و مستهجنين تماماً لسماع أي رأي مخالف لقناعاتهم و أفكارهم .. أي أنهم يفضلون سلال الرصاص على حفن الحروف و الكلمات!؟
ربما لأن عزم الكلمة لا يقل إيلاماً و فتكاً و فاعلية عن القنبلة أو السيف فبداية الحروب كلام ونهايتها كذلك.