كاظم فاضل كتب لزهرة سورية : مذكرات عبد الباسط
قدّر الله لعبد الباسط أن يعيش طفولته الحلوة على ضفاف نهر الفرات الساحر و منذ نعومة أظفاره كان يلاحقه على الدوام وبعد قيامه بأي فعل أو استفسار .. سؤال واحد لا يتغير و لا يتبدل مع متمماته.
ففي المدرسة كانت المعلمة تصرخ في و جهه بلا توقف بعد أي حركة يقوم بها في الصف .. من أنت لتقوم بذلك!؟ وليبدأ مسلسل الشتائم.
بالطبع لم تكن الأوضاع في البيت أفضل حالاً فما إن كان يبدأ بإظهار ميوله لهذه الطبخة أو تلك يأتيه صوت أبيه الشجي .. من أنت لتقول / بدي و ما بدي!؟ / و يختم بالسباب و الشتائم.
حتى عند حلاق العائلة كانت نهاية أي رغبة له " كتطويل الغرة مثلاً " تواجه بنفس السلاح الفعال .. من أنت لتطلب هذا الطلب!؟ / أبوك بيزعل منا عمو!؟ / و يتمتم باللعنات على هذا الجيل.
مرّت الأيام و السنين و كان عبد الباسط يعتقد في سرّه أن الحال سيتغير حتماً بعد دخوله الجامعة و بلوغه سن الرشد.
لم يمض وقت طويل ليدرك عدم صحة اعتقاده الساذج .. ففي أول محاضرة له في الكلية رفع يده ليأخذ الإذن في الكلام من أستاذ المادة .. وما إن بدأ التحدث جاءه صراخ الدكتور مستنكراً .. من أنت لتطلب التوسع بالشرح!؟ على أساس بدك تصير عبقري زمانك يعني!؟ منهياً كلامه بشتائم لاذعة.
و لما شارك في منتخب الجامعة لكرة القدم فاجأه المدرب بصوته الأجش و هو يقول له
من أنت لتمرر الكرة إلى الخلف!؟ / شو مفكر حالك بيليه!؟ / و كالعادة كانت تنتهي المسألة بالسباب و اللعنات.
عبد الباسط كان متأكداً بينه و بين نفسه على الأقل أن الأمور ستنقلب رأساً على عقب بعد تخرجه من الجامعة حيث سيعمل و يصبح لديه دخله الشهري الخاص به.
فذهب في أول يوم دوام له بوظيفته الجديدة في العاصمة مفعماً بالأمل و الطموح و الطاقة .. وجلس على كرسيّ جانبي في انتظار أن يتم تكليفه بعمل ما .. لكن الساعات راحت تمضي ببطء شديد دون أن يكلمه أحد .. لذلك قرر أن يسأل المدير المسؤول عن العمل الذي يجب عليه القيام به .. وإذ به يجيبه متهكماً و ساخراً .. من أنت لتسأل عن هذا الشيء!؟ / هاد مو شغلك أبداً و بعدين لسه ما صرلك بالقصر من مبارح العصر!؟/ و جاءت الخاتمة كسابقاتها تماماً.
عاد عبد الباسط إلى داره مستغرباً .. فلا زالت القصة هي ذاتها رغم تغير المكان و الزمان .. وجلس في غرفته وحيداً يضرب أخماسه بأسداسه.
ليخرج بفكرة لم تكن تخطر له على بال؟
وهي الكتابة .. فبدأ بكتابة أول مادة في حياته و أرسلها للنشر.
لكنه لم يكن يدري أنه قد ارتكب بفعلته " الفظيعة " هذه أكبر أخطائه و آثامه التي لا يمكن للغفران الوصول إليها مطلقاً؟
فقد قفزت في وجهه أكوام من الأسئلة التي لا يمكنه أن يجيب على أي منها .. من أنت لتكتب .. ومن أنت لتفكر .. ومن أنت لتقول هذا جميل وذاك قبيح .. ومن أنت لتتحدث عن الناس .. ومن أنت لتكتب للمحبة و الوطن و الشمس .. ومن أنت .. ومن أنت .. ومن أنت!؟ لكن هذه المرة مع كميات مضاعفة من السباب و الشتائم و اللعنات و الاتهامات.
تكدست الأسئلة على جدران ذاكرة عبد الباسط المتعبة .. لكنه اختار أن يغط في نوم عميق بعد عودته إلى بيته بقليل.
المهم و اللافت أن عبد الباسط كتب على آخر صفحة من دفتر مذكراته:
عندما تبقى أنياب أحفاد " بن غوريون " الحادة قادرة على نهش اللحم " العربي " بكل شراسة و نهم وصولاً إلى تراب يوسف العظمة .. ويخرج من يصفق أو يبتسم في السر و العلن!؟
وعندما يعتقد الجميع جازمين أنهم وحدهم يمتلكون كامل الحق و الحقيقة و الصواب .. ويغلقون بإحكام عيونهم و آذانهم و عقولهم و أبواب قلوبهم على هذه القناعة أو الاعتقاد ..
وعندما تتسرب الإنسانية من بين أنامل الناس قطرة إثر قطرة و دون أي اكتراث أو ندم..
و عندما تصبح جراح الناس و حيدة و غريبة و منفية كأنها ملكهم وحدهم حصراُ..
وعندما تتضخم و تنتفخ " الأنا " و الأحقاد لتغدو أكبر من الأوطان ..
و عندما تصبح " المحبة " تائهة و مهزومة و مكسورة الخاطر أو ضيف ثقيل و غير مرغوب فيه على أحسن تقدير ..
و عندما يغدو واحد من بين كل ثلاث أشخاص محلل و مفكر إستراتيجي لا يشق له غبار في قراءة المشهد السياسي و الأمني و المعيشي و حتى الرياضي .. و لا شغل لهم إلّا فرض قناعات و تحليلات لا ترتبط بالواقع وهموم و هواجس الناس في شيء ..
فلن تسود إلّا رائحة الدم و البؤس و الخراب .. و المزيد من نشرات الأخبار المقيتة الباردة مع أطنان من الأخبار العاجلة الحمراء و السوداء المدفوعة القيمة مسبقاً.