في اللاذقية… الأرض بلا فلاح يعمل بها
لم تعد مدينة اللاذقية تلك المدينة الزراعية التي تتمتع بالاكتفاء الذاتي، فأسعار المواد الغذائية واكبت موسماً سياحياً نسيته البلاد منذ سنتين، وأصابت بلعنتها سكان المدينة الأصليين قبل نازحيها
لم تعد مدينة اللاذقية تلك المدينة الزراعية التي تتمتع بالاكتفاء الذاتي، فأسعار المواد الغذائية واكبت موسماً سياحياً نسيته البلاد منذ سنتين، وأصابت بلعنتها سكان المدينة الأصليين قبل نازحيها
لا غرابة في تردي الأوضاع المعيشية في اللاذقية. المسألة ليست بتضاعف عدد سكانها بقدوم النازحين، وحِمل الأزمة على كاهل الساحل السوري فحسب، بل هي مساحات شاسعة من مناطق الريف وقعت في أيدي المعارضة المسلحة، ما جعل التواصل بين سكان المناطق المتناحرة مستحيلاً بسبب اشتداد الاشتباكات والمعارك، وبالتالي صعوبة وصول فلاحين هاربين من مناطقهم إلى أراضيهم المزروعة، ما أخرج تلك الأراضي من دائرة الاستفادة.
صحن السلطة في المدينة الزراعية أساساً، أصبح عبارة عن رفاهية يمكن الاستغناء عنها، حيث وصل كيلو البندورة إلى ١٢٠ ليرة سورية بعدما تضاعف ثمنه تدريجاً خلال السنة الماضية ليصل إلى ثلاثة أضعاف سعره السابق، أسوةً ببقية مكونات الطبق المحلي. أما سعر الليمون في المدينة المعروفة بكونها موطن الحمضيات الأول في سوريا، فقد غدا ١٩٠ ليرة. وهو سعر لم يعد بأي خير على المزارعين، إذ يتردى وضع الفلاحين شيئاً فشيئاً، وتبقى مصالحهم الهمّ الأخير في ظل الحرب المستعرة. يؤكد سامر، صاحب سيارة أجرة، أن اللحوم أصبحت مجرد حلم لمواطنين قرروا استبدالها بالخضر، ولكن أسعار الخضر اضطرته مع زوجته إلى زرع بعض أنواعه في حديقة منزله. ويتساءل الرجل: «لقد وجدت أسرتي الصغيرة حلّاً بديلاً وموقتاً بسبب ظروف المنزل المساعدة، لكن كيف يمكن الفقير الذي لا يملك منزلاً، أصلاً، أن يطعم عائلته؟».
مشكلة الفلاح في الساحل ليست حديثة العهد، ولم تولد مع الأحداث الأمنية الأخيرة، إذ لطالما شكا الفلاحون من إهمال الحكومات السورية المتعاقبة التي لم تطبّق مبادئ «ثورة الثامن من آذار» يوماً. فثورة البعث التي أتت لتعطي الأرض للفلاح والمصنع للعامل، لم تؤسس لقوانين صارمة تحفظ حقوق الفلاحين فعلياً. بل ذهب بعض الفلاحين بعيداً إلى اتهام الحكومة ومجلس الشعب بمحاربة الفلاح الساحلي، وعدم تقديم أي تسهيلات أو تعويضات.
وفي وقت تشهد فيه البلاد أزمة غير مسبوقة على صعيد اشتداد المعارك، لا سيما في الشمال السوري الزراعي، تبقى مشكلة المدن هُناك بلا حل بعد احتراق مساحات هائلة من الأراضي وسيطرة المعارضة المسلحة على مساحات أخرى. ورغم الأزمة الحادة يعيش الفلاح في واد، والمسؤول في واد آخر، حيث رفض أحد مسؤولي مديرية الزراعة الإدلاء بتصريح إلا بوجود تصريح خطي من رئاسة مجلس الوزراء نفسها، وذلك «تمسّكاً بالقانون».
وعلى الرغم من السخط الشعبي في الساحل، يبقى هُناك من يرى الجزء الممتلئ في الكأس، ويحمّل المعارضة المسؤولية الكبرى. تقول هبة، طالبة اقتصاد،: «ليست هذه حال اللاذقية وحدها، وحال المدن الأخرى ليست أفضل. يكفي أن الدولة لا تزال قائمة حتى الآن، والقيادة تبذل المستطاع لإنقاذ البلاد».انتشار التعليم في مدينة اللاذقية أدى إلى تزايد أعداد موظفي القطاع العام والمشترك فيها، على حساب أعداد الحرفيين والمزارعين. يتساءل حسام، موظف حكومي: «نحن في أزمة. هذه جملة شهيرة ومتداولة خلال العامين المنصرمين. أين إجراءات الدولة للتعامل مع هذه الأزمة؟ وأين وزارة التموين من التلاعب بالأسعار؟». وبحسب حسام، فإن زيادة الرواتب الأخيرة ليست إلا نقمة واستخفافاً من الدولة بالمواطن. ويضيف قوله: «أين الفائدة من هذه الزيادة أمام ارتفاع الأسعار ثلاثة أضعاف؟».
كثيرة موارد المدينة العريقة تاريخياً وسياحياً وزراعياً. خيرات لا يرى منها أبناؤها إلا الموت المقبل من المدن المشتعلة، فيما تبقى معنويات فقرائها مرتفعة، يتغذون على بارق أمل في انتصار الجيش، ما يضمن بقاء الدولة لتجمع شمل ما تشتّت وتحاسب من أخطأ، أو من أجرم بحق البلاد وشهدائها.