سورية .. وين كنا وين صرنا ؟ !!
كعادتها تستيقظ في الصباح الباكر لتجهز الفطور ثم تيقظ زوجها وأولادها لتناول الفطور فيذهب زوجها إلى العمل وأولادها الصغار إلى مدارسهم ..
أما في أيام العطل كانت تجلس مع زوجها بالصباح وتشاركه شرب القهوة على شرفة المنزل ويدمدمان على أنغام فيروز وقطرات الندى تتساقط على وجهيهما .. كان الأولاد ينتظرون أيام العطل بفارغ الصبر لأنهم سيذهبون برفقة "البابا والماما" إلى أحد أقربائهم ، فيلعبون ويمرحون .. الزوجة كمربية ومدبرة المنزل كان على عاتقها أن تتابع تعليم أولادها وتأمن لهم حاجياتهم من كتب ودفاتر وقرطاسية وهي بطبيعة الحال لاتكلف الولد الواحد بالشهر أكثر من 200 أو 300 ل.س كحد أعظم ، أما دورها كمدبرة منزل فكان عليها أن توازن بين دخل زوجها ومصاريف المنزل من طعام وشراب وملبس وأدوات تعليم وأشياء أخرى ..
لم يكن هنالك أي مشكلة بتأمين السلع والخضروات من السوق أو من أقرب "سوبر ماركت" فكل شيء متوفر وبأسعار زهيدة تناسب دخل الأسرة ، وإذا فكرت بيوم أن تطعم أولادها وزوجها لحمة أو دجاج فهذا أمر بسيط فالكيلو لايتجاوز 150 ل.س للدجاج و300 ل.س للحمة .. حاجة الأسرة للدواء كانت بسيطة لأن الأجواء نظيفة والرقابة الصحية للمواد والسلع متوفرة والمراكز الصحية منتشرة ولا يتكلف أي شخص مهمة العناء بالبحث عن الدواء لتوفره ، هكذا كانت تعيش حياتها مع زوجها وأولادها الثلاثة في بيت بسيط ضمن أحد الأحياء الشعبية قبل وصول تسونامي "الربيع العربي" ..
فماذا كان بعد ذلك ؟ !!
رأيتها تجلس على الرصيف فوق جسر السيد الرئيس بالعاصمة دمشق وهي ترتدي عبائتها وحجابها وسمات العز والتواضع والخجل والقهر والعناء تشع من وجهها .. أصابني فضول وإرتشعت جوارحي لمنظرها .. فشكلها لا يوحي بأنها من الطبقة التي تعيش تحت خط الفقر ، ولا حتى جلستها توحي بأنها زاولت هذا العمل من قبل ، فهي فرشت على الأرض قطعة قماش وتنتظر أهل الخير ليتبرع ببعض النقود التي قد تقي أطفالها من خطر الموت من الجوع .. جلست بجانبها بعد أن أستأذنتها بطلب الحديث معها فقلت لها " يا أختي الكريمة أن أشك بأنك من عائلة عريقة وبأن وجودك هنا على الرصيف فيه سبب مؤلم لأن سماههم بوجوههم ، فما القصة ؟ " فابتسمت بإبتسامة مؤلمة وقالت " الحياة هيك بدها " ..
" كان عندي بالريف بيت بجنن وزوج بطير العقل وعايشة مع ولادي وكافين خيرنا وشرنا ، لحتى صرنا بزمن نفيق على صوت مدفع ونام على قصف طيارة ، وبدل مانطلع يوم العطلة مشان نشم الهوا صرنا معطلين كل أيام السنة لاطلعة ولا فوتة وبدل مانشم الهوا صرنا نشم ريحة الدم والبارود ..
" "جوزي نزلت فوق رأسه قذيفة وعطاك عمره وبيتنا من كتر مادخل فيو رصاص وقذائف صار بالأرض ، ولاد الخير الله يحميهم دبرولنا مكان نسكن فيو ، بس ولادي التلاتة فاتحين تمهم للسما مين بدو يطعميهم ، أنا هلأ صرت بالنسبة لإلهم المرأة والرجال .. بدي أربيهم وأعلمهم وأطعميهم وألبسهم فكيف بدي أدبرها إذا كلشي صار سعره بالنار .. " وتتابع قولها " أنا مابدي أطعميهم فواكه أو لحمة لأن صارت حلم عنا من زمان بس بكفي أحسن أجبلهم رغيف خبز بآخر الليلة مشان مايموتوا من الجوع ، المدرسة ولادي نسيوا شكلها لأني ماعندي قدرة أشتريلهم دفتر أو قلم ، القلم سعره صار أكتر من ربطة الخبز فعيفها على الله مستورة أحسن الشي" .. بهذه الكلمات لخصت المرأة أبسط أنواع الحالات التي أصبح يعيش عليها الشعب السوري ، ينتظر الموت ويشرب السم ومايزال يكابر على ألمه وجرحه يصمد حتى النهاية ..