عندما تنطق الجزيرة بنصف لسان بقلم د. صلاح عودة الله
لا أحد ينكر بأن الغالبية الساحقة من الشعوب العربية تتمنى أن يكون الاعلام العربي اعلاما مستقلا ومنحازا وغير تبعي, ولقد تنفسنا الصعداء عندما انطلقت قناة الجزيرة القطرية ولسان حالنا يقول:جاء من يحقق لنا امانينا,
نعم هذا ما قلناه ولكن هل فعلا تحققت هذه الأماني؟..لقد شكل ظهور هذه القناة حالة إعلامية جديدة، لم يعهدها المشاهد العربي من قبل، واستطاعت بأدائها المؤثر أن تفك ألغازا عدة، وأن تحول المشاهد من موقف التفرج والسكون إلى حالة التفاعل، واتخاذ موقف للتعبيرعن الرأي، والمشاركة في صناعة الحدث.وبالرغم من أن قناة الجزيرة منذ ظهورها حتى اليوم، لم تستطع أن تغطي كافة المسؤوليات المنوطة بالرسالة الإعلامية الشاملة، إلا أن دورها في متابعة الخبر ورصده وتحليله، صار مع الأيام، أداء هاما لا يمكن الاستغناء عنه. ووفقا للقاعدة التي تقول بأن من لا يعمل لا يخطىء والعكس هو الصحيح, فان هذه القناة ارتكبت الأخطاء بقصد أو عن غير قصد, ولكن وكما يقال"غلطة الشاطر بعشر غلطات", ومن هنا فانه من الصعب أن يغفر الجمهور لها ان هي ارتكبت الأخطاء. في هذا المقال سأتناول تغطية قناة الجزيرة للمجزرة الصهيونية الرهيبة في غزة والتي بدأت في نهاية العام الفائت وامتدت الى الأسابيع الأولى من العام الحالي..لا يخفى على القارئ الكريم كيف امتزج الأمل بالألم والضيق الشديد بشيء من نفحات القوة، والشعور بالمشاركة النفسية ومشاطرة الألم في هذه"المحرقة"..يأتي شعور الألم الكبير مبررا بل ومطلوبا إلى حد كبير، لكن الثابت أن قناة الجزيرة بتغطيتها المستمرة لأحداث هذه المجزرة، جعلت المشاهد العربي يشعر أنه لم يعد مرهونا لوكالات الأنباء العالمية، التي كانت تتاجر بصور الحروب، بدلا من أن تقدمها للعالم على هيئتها الطبيعية، وكما حدثت في الزمان والمكان الذي التقطت فيه. بعد عقد من انطلاقتها, قامت قناة الجزيرة باطلاق"الجزيرة الانجليزية"، والتي هدفت في ما هدفت اليه لتغطية الأحداث في الشرق الأوسط والعالم باللغة الأكثر انتشارا حاليا, وتعتبر"الجزيرة الإنجليزية" أول قناة دولية إخبارية ناطقة بالانجليزية مركزها الرئيسي في الشرق الأوسط, وتحاول إيجاد تواصل بين هذه المنطقة و أكثر من مليار ناطق بهذه اللغة حول العالم. ومع خالص تقديرنا للدور الذي تقوم به قناة الجزيرة الناطقة بالعربية في خدمة قضايا الأمة ودورها التوعوي والنهضوي الذي تتصدى له في عالم غابت فيه المنابر الحرة, الا أنه يهيمن على تفكير الكثير من المتابعين هواجس وشكوك حول نهج قناة الجزيرة الناطقة بالانجليزية في التعامل مع القضايا المصيرية للأمة على الصعيدين العربي والإسلامي وهي التي كنا ننتظر إطلاقها بفارغ الصبر. وقد برز هذا جليا في التغطية الإعلامية التي قامت بها هذه القناة لمحرقة غزة والتي يساوي فيها الإعلام الغربي بين الضحية والجلاد وبين صاحب الحق والمغتصب. ومن أبرز الأخطاء التي ارتكبتها الجزيرة الانجليزية أثناء تغطيتها لمحرقة غزة:- لقد أخفقت هذه القناة في لفت الأنظار إلى دور"اسرائيل" كمعتد ومحتل. – الشكوك حول الموضوعية يؤكدها تغييب المشاهد الميدانية والصور المأساوية. – لقد تجنبت هذه القناة اجراء مقابلات مع الجرحى لعدم ابراز همجية الصهاينة وعدوانهم. – لقد خلت التغطية من أية مساحة عن معاناة أطفال غزة ونسائها وهم أغلبية ضحايا هذه المجزرة. ان من يتابع تغطية الأخبار والأحداث العربية على الجزيرة الناطقة بلغة الضاد ويقارنها مع الجزيرة الإنجليزية, فانه يشاهد كيف تكون عناوين الأخبار في القناتين, وترتيبها..ولن يحتاج المتابع الى معرفة اللغة لكي يتفهم ازدواجية المعايير الإعلامية. ان المشهد اليومي الذي ترسمه القناة الانجليزية نخشى أن يكرس نهج الفضائيات الغربية المعروفة التي تعمل وفقا لايديولوجيات ملاكيها أو داعميها ويدعونا الى تكرار التساؤل عن مدى سعي القناة للالتزام بالشفافية والموضوعية.. ومن هنا نقول بأن الاضافة الحقيقية لأي قناة هي القدرة على نقل الحدث بحيادية وشفافية يستطيع المشاهد من خلالها إعطاء الاحكام بنفسه حول من يعتقد انه الجاني ومن هو المجني عليه. وللموضوعية ولتثبيت ما كتبت عن الجزيرة الانجليزية, فقد نشرت مؤسسة الراصد الاعلامي العربي"العرب ميديا واتش" في العاشر من شهر حزيران الحالي نتائج دارسة اجراها مدير ومؤسس الجمعية, السيد شريف حكمت نشاشيبي أسفرت عن انحيازية هيئة الاذاعة البريطانية وقناة الجزيرة الشهيرة"لاسرائيل" في تغطيتها الاخبارية للنزاع الاسرائيلي الفلسطيني العتيق.وقد أرسل لي السيد النشاشيبي نسخة بالعربية من هذه الدراسة القيمة شاكرا له جهوده: تتردد أنباء الصراع الفلسطيني الاسرائيلي بكثرة في القنوات الاعلامية المختلفة.. ويشكل العنف أحد أبرز وجوه هذا الصراع وبناء عليه تبرز الاهمية البالغة لكيفية تغطية هذا العنف لان هذه التغطية بالذات ستكّون الاساس الذي ستبني عليه الجماهير فهمها وتصوراتها لقضايا الشعبين المتنازعين. وبما أن ال"بي بي سي" وقناة الجزيرة"القسم الانجليزي"هما من أكبر القنوات الاخبارية فقد ركز الراصد الاعلامي العربي على كيفية تغطية هاتين القناتين لاخبار أعمال العنف ما بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني فيما نشرتاه على الشبكة الالكترونية لكل منهما.فترة المراقبة امتدت أربعة أشهر ما بين 1 شباط الى 31 أيار 2009 . وقد بنى الراصد تحاليله على مقدار الاهمية التي أضفتها هاتين القناتين على وجهات نظر الطرفين وعلى سرد الوقائع التي قدمها كل منهما بطريقة تتيح لوجهة نظر أحدهما الطغيان على الاخرى واعطاؤها أولوية ظاهرة. وقد ارتكز الراصد في هذا التحليل على عدد الكلمات التي خصصت لنقل كلمات كل مصدر اما بحذافيرها أو كما جرت اعادة صياغتها من قبل القناة المعنية وبأي ترتيب جرى عرضها على الصفحة الالكترونية.وكذلك أخذ الراصد في حسبانه ما تمارسه عادة القناتين في اظهار طرف من الاطراف المتنازعة كبادئ بأعمال العنف أو كطرف يرد على عنف سبقه. مذهلة مجفلة كانت النتائج التي توصل اليها الراصد, ولم يكن هذا نتيجة لميل ال"بي بي سي" الى طرف واحد في طغتيها فحسب ولكنه كان بسبب للفارق الهامشي الهزيل الذي تفوقت به الجزيرة في تغطيتها على تغطية ال"بي بي سي". ملخص النتائج التي توصل الراصد اليها: في الوقت الذي احتوى كل مقال من المقالات المنشورة على شبكة البي بي سي على مصادر اسرائيلية غابت المصادر الفلسطينية عن 35% منها. – في الوقت الذي احتوى كل مقال من مقالات الجزيرة على مصادر اسرائيلية غابت المصادر الفلسطينية عن 11% منها. – 82% نسبة مقالات البي بي سي التي نقلت عن مصادر من الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني ولكنها خصت الطرف الاسرائيلي بعدد أكبر من الكلمات. – 69% نسبة مقالات الجزيرة التي نقلت عن مصار من الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني ولكنها خصت الطرف الاسرائيلي بعدد أكبر من الكلمات. – من المقالات التي نشرتها القناتين على شبكتيهما والتي نقلت عن مصادر من الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني قدمت في غالبيتها المصادر الاسرائيلية على الفلسطينية وبلغت النسبة 59% من المقالات في البي بي سي و 53% في الجزيرة. – من المقالات التي خصت الطرف الاسرائيلي بعدد من الكلمات أكثر مما خصت به الطرف الفلسطيني بلغ المتوسط في البي بي سي 3،3 للطرف الاسرائيلي بينما بلغ في الجزيرة 3،4 . – من المقالات التي خصت الطرف الفلسطيني بعدد أكبر من الكلمات كان متوسط الزيادة في كلتي المحطتين 1،8 . – نشرت البي بي سي أربع صور مع تعليق عليها نقلته عن مصادر اسرائيلية .الجزيرة نشرت خمس صور مع تعليق عليها نقلته عن مصادر اسرائيلية. أما عدد الصور التي نشرتها القناتين مع تعليق منقول عن مصادر فلسطينية فكان صفرا . – لابد من الاشارة الى أن غياب المصادر ووجهات النظر الفلسطينية وكذلك تغليب ما يأتي على لسان الطرف الاسرائيلي وتركيز الاهتمام عليه ينافي ويتناقض مع ارشادات التحرير والقواعد الاعلامية التي تتبناها كل من القناتين. – كل من القناتين استعملتا كلمات تظهر بشكل واضح لا لبس فيه ولا يحتمل أي تأويل أن أعمال العنف التي يمارسها الطرف الاسرائيلي تأتي كرد فعل مباشر على اعمال عنف سبقتها وقام بها الطرف الفلسطيني، وكان عدد المرات ست بالنسبة للبي بي سي وثلاث بالنسبة للجزيرة. ولم يحدث حتى لمجرد مرة واحدة في كلتي القناتين أن استعملت كلمات تدل على أن اي عمل من أعمال العنف التي قام بها الطرف الفلسطيني كان رد فعل مباشر على أعمال عنف سبقتها وقام بها الطرف الاسرائيلي. – كل من البي بي سي والجزيرة قدمتا بشكل طاغ مذهل العنف الاسرائيلي كنتيجة لاحقة لعنف فلسطيني وقد أوردته البي بي سي عشر مرات بينما أوردته الجزيرة في سبع منها. – مرة واحدة يتيمة أوردت البي بي سي أن عمل عنف فلسطيني جاء كرد فعل على عمل عنف اسرائيلي سبقه, وأما عدد ما اوردته الجزيرة بهذا الشأن فكان صفرا. هذه هي المقالة وهذه هي الدراسة, وسيد الأحكام هو القارىء العزيز, فلا تبخل عزيزي القارىء بتعقيبك وردة فعلك فبدونهما يكون من الصعب الاستمرار في الكتابة بصورة موضوعية, وفي النهاية أقول:قبل ان تتوه في دوامة الإعلام الغربي وتفقد بوصلة الموضوعية..المطلوب ضبط القناة الانجليزية على إيقاع الجزيرة العربية, والا فان الخاسرالوحيد هو قناة الجزيرة القطرية وعندها لا ينفع الندم. **الشكر الجزيل للسيد شريف النشاشيبي مدير ومؤسس"الراصد الاعلامي العربي"على جهوده