سبعيني يهوى أرشفة الموسيقا منذ خمسين عاماً
عندما تتملك الهواية الإنسان وتصبح شغله الشاغل تنتقل من الممارسة العفوية لتعبئة أوقات الفراغ إلى تنظيم هذه الهواية والاعتناء بأدق تفاصيلها إلى درجة قد تدفع بالهاوي إلى أن يخصص سنوات عمره لهوايته التي ربما لن تكفي للإحاطة بكل جوانبها.
أحد هؤلاء الهواة المؤمنين بهوايتهم والعاشقين لها رجل تخطى الثالثة والسبعين من العمر هو أمين رجب من سكان مدينة دوما في ريف دمشق الذي وجد منذ ما يقارب نصف قرن من البحث في الأرشيف العربي الموسيقي واقتنائه والحفاظ عليه هدفاً يهون في تحقيقه كل غال ونفيس يجدر الاحتفاظ به ونقله للأجيال.
يقول أمين: لقد استهواني منذ شبابي الباكر منظر الناس وهم يتدافعون للاستماع إلى حفلات أم كلثوم الشهرية التي كانت تذاع في الراديو الذي كان نادراً وباهظ الثمن في تلك الأيام، ويشرح أمين شعوره بمتعة لا توصف وهو يستمع لأغاني تلك الحقبة عبر جهاز الفونوغراف الحاكي عند أحد أقربائه.
ويتابع أمين سرد تجربته قائلاً: عندما أنهيت خدمة العلم في العام 1960 بدأت لدي هواية سماع الموسيقا واقتناء التسجيلات النادرة وكان أول عهدي بهذه الهواية بشكل بسيط مثل كل المبتدئين عندما اشتريت مسجلة ذات شريط بكرة تعمل على البطارية وصرت اشتري بين كل حين مسجلات أحدث وأتردد بشكل مستمر على كل محلات الأسطوانات في تلك الفترة وأزور هواة التسجيلات القديمة وشرعت منذ السبعينيات في البحث عن تسجيلات نادرة من مختلف المصادر وبالذات لأم كلثوم وأدفع لقاء الحصول عليها مبالغ باهظة.
ويعيد أمين تفضيله لأم كلثوم عمن سواها لأنها مطربة حباها الله بصوت لن يتكرر هذا عدا ذكائها وفصاحتها وحسن إلقائها.
ويؤكد أمين أنه ما زال لغاية الآن يبحث عن التسجيلات النادرة ويفاجأ بأن ثمة أغاني وتسجيلات قديمة لم يسمع بها قبلاً.
ويضيف مع ذلك بوسعي تأكيد امتلاكي لأرشيف ضخم خاص بأم كلثوم لا يوجد له مثيل عند أحد ويضاهي أرشيف الإذاعة ويندر وجود مطرب سوري أو مصري أو لبناني أو من دول الخليج و العراق و الأردن إلا واحتفظ له بتسجيلات تضم أغلب أغانيه.
ويفتخر أمين أنه يحتفظ بتسجيلات لمطربين غير معروفين الآن يناهز عمرها المئة عام.
ويكشف أمين عن مخزونه الموسيقي ويقول لدي ما يناهز عشرة آلاف شريط كاسيت وأكثر من أربعة آلاف شريط بكرة وقرابة سبعمئة أسطوانة قيمة ونادرة عدا ألفي أسطوانة أخرى أقل أهمية ومازلت أحتفظ إلى الآن بمشغل أسطوانات بيكاب كما عندي في أرشيفي الخاص نوادر وهو تعبير في لغة أهل المصلحة يستخدم للدلالة على التسجيلات التي تضم مواد مثل اللقاءات الصحفية أو جلسات الفنانين الخاصة حيث احتفظ ب 350 شريط كاسيت مدة كل واحد ساعة ونصف الساعة منها لعبد الوهاب وفريد وزكريا أحمد وسواهم.
ويعتمد أمين في دعم أرشيفه الفني على التسجيلات القديمة التي تبثها الإذاعات العربية بين الفينة والأخرى ويحتفظ بها على أكثر من 250 شريط كاسيت ويقول إن إذاعة لندن تحتفظ بتسجيلات نادرة حصلت عليها أثناء فترة الاحتلال الانكليزي لمصر كما يستعين بمعارفه وأصدقائه ممن استهوتهم هذه الهواية ويتبادل معهم المقتنيات الموسيقية والآراء.
ويؤكد أمين أنه سعى جاهداً خلال سنوات لتوعية أبنائه بأهمية الهواية التي كرس حياته لأجلها حفاظاً على أرشيفه الشخصي من الضياع حتى أصبح سماع الطرب الحقيقي والأصيل شغلهم الشاغل كما أنه درب أبناءه على حفظ أسماء أكثر من ألف مطرب ومطربة من الرعيل القديم وتسجيلاتهم التي يحتفظ بها أمين كأغلى ثروة يملكها.
ويقول أمين إنه لا يعير أذناً مصغية للغناء السائد حالياً ويعتبره تراجعاً عن ما شيده أساتذة كبار رحلوا ويحمل مسؤولية هذا التراجع للجهات والشركات المنتجة التي باتت تهتم للوجوه الجميلة وللمكاسب المادية أكثر مما تهتم للصوت الموهوب حسب تعبيره.
ويخشى أمين من أن نصف القرن الماضي الذي شهد بزوغ عمالقة الموسيقا العربية قد لا يتكرر نهائياً رغم أن ظهور أجيال جديدة قد يحمل معه نشوء مطربين وجمهور ذواق للفن الأصيل.
وإذ كانت الآراء تتعدد حول فن الغناء السائد حالياً فأنها تتفق على أهمية الهواية التي يقوم بها أمين رجب وغيره لأن الحفاظ على تراث الأمة في أي جانب من التلف والضياع مهمة لابد أن تتضافر في سبيلها كافة الجهود وان تحظى بدعم ورعاية رسمية تخرج بهواية الأرشفة الموسيقية من الإطار الفردي إلى مستوى الشأن العام.