درويش..انك نصف العرب وأكثر..! بقلم د. صلاح عودة الله
درويش..انك نصف العرب وأكثر..! “رجل نُجمع على تبجيله..وصاحب صيت هو الأكبر في ثقافتنا اليوم”..الناقد السعودي عبد الله الغذامى. في مثل هذه الأيام من العام المنصرم رحل شاعر ومناضل ورمز قلما تنجب الأرحام مثله, رحل محمود درويش..
تمر علينا الذكرى السنوية الأولى لرحيل شاعر القضية الفلسطينية ومقاومتها والألم لا يزال يعتصر قلوبنا على من ترك الشعر وحيدا يتيما..من الصعب أن نكتب في هذا الانسان, الرمز, العاشق, المناضل, المتؤلم..فكيف تكون الكتابة في غياب صاحبها, فهو رمز من رموز النضال الفلسطيني, وعلم من أعلام الثقافة والأدب العربي, وصوت شاعرصادق وأمين, خاطب ضمائر العالم الحية بقلب مثقل بأحزان فلسطين وشعبها, وأوصل دمعة القدس الجريح الى كل فضاء ومنبر حر في كافة بقاع الأرض. رحل محمود وقلبه مليء بهموم القضية, فهو اللاجىء من"البروة" الى "الجديدة", انه اللاجىء في وطنه وما أصعبه من لجوء..رحل محمود بعد أن أصبح كغيره من الملايين من أبناء شعبه, أصبح لاجئا في بلاد العرب والغرب..توقف قلبه عن الخفقان, فلم يعد بمقدوره تحمل عبء القضية, انه قلب لا يرحم, فبتوقفه هذا رحل جزء هام ورئيس من أجزاء القضية..هذا ما لم يرده محمود وان كان يتوقع حدوثه كل لحظة..أحمل في صدري"قنبلة موقوتة" كما كان يقول, وهذا ما لم نرده نحن والقدس, كيف لا وقد كان ابنها المدلل, ابنها الذي حمل أسمها وهمومها أينما رحل وحل, ولم يكن متعبا بها, فدفن بالقرب منها وعلى تلة تطل عليها, ومنها يصبو اليها محمود ويداعبها وتداعبه. شوكة في حلق العدو ورمد في عيونه كنت..اعتقلك وعذبك ولكن الصمود عنوان نضالك كان ولم يجد اليأس الى نفسك سبيلا..غادرت الى موسكو ومن هناك الى القاهرة وبيروت وتونس لتأخذ مكانك الطبيعي..مكانك الثوري النضالي, وكتبت ثم كتبت وتوجت الكتابة بالحنين الى خبز أمك وقهوة أمك..قمت برثاء الكثيرين حتى نفسك ولكنك لم تتمكن من رثاء أمك يا محمود.."حورية", فكانت من بين من ودعوك, كهلة تجاوزت التسعة عقود, وما هي الا أشهر قلائل حتى رحلت هي أيضا, رحلت والمرارة تعتصرها, فرحيلك أدمى قلبها كما أدمى قلوب الملايين. إنه محمود درويش، ولا أحد اليوم غير محمود درويش, لأنه وحده وطن كامل وضمير أمة بأسرها..انه أسطورة هددت أشعاره الكيان الصهيوني.."أيها المارون بين الكلمات العابرة"..كلمات هزت برلمان هذا الكيان, وأصبحت شغله الشاغل لأنه فعلا كيان عابر ومصطنع كتاريخه..أيها الدرويش, حتى من كلماتك اهتزت الأرض من تحت أقدامهم ولا تزال تهتز, فها هو أحمد الطيبي يخاطبهم وصارخا في وجوههم ومن على منصة برلمانهم بعد أن حاولوا تمرير اقتراح عنصري يهدف الى شطب الأسماء العربية للمدن والقرى الفلسطينية وكذلك من على جميع اللافتات واستبدالها بأسماء عبرية:احملوا أسماءكم وانصرفوا..واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا..وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة..وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا..انكم لن تعرفوا, كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء؟..أيها المارون بين الكلمات العبرة..ولهذا لك أن تنام قرير العين يادرويش, فروحك اعلنت الثورة على الطغيان ورفاقك لم ولن ينسوا ماقدمت، كانت كلماتك حجرا فجر ثورة آلمتهم في حياتك و غدا سلاحا فتاكا أدخله رفاقك الى بيتهم في مماتك, فكأنك معنا يا محمود. لقد سقط الحصان عن القصيدة لكي يرحل إلى البيت عبر السفح كما شاء: إما الصعود وإما الصعود..والآن يا أخانا بعد أن لم تعد بشرا مثلنا، لأنك مت شاعرا أسطوريا لتعيش مع من هم مثلك, مع الأساطير.. لقد دخلت التاريخ، وصرت اليوم ما أردت, فقد صرت فكرة وكرمة وطائرا فينيقيا وشاعرا جسده تحت الثرى، واسمه فوق الثريا..لقد صرت تماما كل ما تريد, لقد صرت فكرة," سأصبح يوماً فكرة..لا سيف يحملها إلى الأرض اليباب ولا كتاب..كأنها مطر على جبل تصدع من تفتح عشبه..لا القوة انتصرت..ولا العدل الشريد..سأصير يوماً ما أريد..أنا من تقول له الحروف الغامضات, اكتب تكن, واقرأ تجد". لقد كانت قصائد درويش وستبقى وطناً وهوية، لذا أحبه الشعر ومنحه أسرار خلوده، لكنه ظل يبحث عن الموت في جداريته"الوصية" بلا موت، ويهزم الموت باستعلاء قائلاً:"هزمتك يا موت الفنون جميعها..هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين..مسلة المصري، مقبرة الفراعنة..النقوش على حجارة معبد هزمتك انتصرت, وأفلت من كمائن الخلود..فاصنع بنا, واصنع بنفسك ما تريد". لقد انتظرت الموت يا محمود "بذوق الأمير الرفيع البديع", وأبنت نفسك بأفضل مما قد يفعل أي منا، فكانت وصيتك في جداريتك: "أقول صبّوني بحرف النون ، حيث تعبّ روحي..سورة الرحمن في القرآن..وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي, ووقع الناي في أزلي, ولا تضعوا على قبري البنفسج ، فهو زهر المحبطين يذكّر الموتى بموت الحبّ قبل أوانه..وضعوا على التابوت سبع سنابل خضراء إن وجدت، وبعض شقائق النعمان إن وجدت، وإلا، فاتركوا ورد الكنائس للكنائس والعرائس". لم يمت محمود درويش..ولن يرحل من نفوسنا..فكل قصيدة هي رمز من رموز الحياة..وكل لحن غنى لفلسطين وللأمة من أشعاره..باق وخالد في أرواحنا أبد الدهر..وعزاؤنا في محمود درويش هذا الإرث الذي تركه فينا..فنم قرير العين وأنت تحتضن القدس في قلبك..وستخلد الأجيال تلو الأجيال ذكراك العطرة..بقصائدك وأشعارك وكتاباتك..فكم من العظماء أمثالك عاشوا الآف السنين بآثارهم الخالدة.
فعلا إنه محمود درويش، ولا أحد اليوم غيره, لأنه وحده وطن كامل وضمير أمة بأسرها..لأنه هو من حمل ضحكة فلسطين وأحزان فلسطين في حروف أبياته حتى آخر يوم في حياته، ومحمود درويش ليس شاعراً فريداً، بل أسطورة زمن غابت فيه الأساطير..!. وكل من يمر بين كلمات درويش غير العابرة لا يجد في رصيده من شعر الغزل إلا ديوانا واحدا لم يقل فيه كلاما رومانسيا كحال كل الشعراء بل اعترف فيه لسيدات فلسطين بدروهن في الثورة ومنح لكل واحدة منهن وسام اعتراف وحب، وخشي أن يتزوج منهن واحدة فتغضب منه الأخرى لأن الوطن لجميعهن وهو وطن كامل..بل أكبر بكثيرمن نصف العرب. صحيح أن الموت غيب الشاعر الكبير محمود درويش بعد عملية القلب المفتوح..لكن الأكيد هو أنه مازال حيا يرزق لأنه ولد بقلب مفتوح على قضيته الكونية الكبيرة بل أضاف لرصيد القلوب العربية نوعا آخر من إحساس الكينونة..قالوا إنه مات جسدا لكني أراه حيا خالدا فالعظماء لا يموتون..سيبقى خالدا في دم فلسطين وأحلام الشهداء وعرق الرجال وفي صهيل الخيول العربية.
تحدى درويش الصهيونية"جولدا مئير" التي أعلنت موت الهوية الفلسطينية بعيد نكسة حزيران فكتب "سجل أنا عربي" ليقول إن الوجدان الفلسطيني حي رغم أنف الصهاينة..هو الذي تحدى السجون وعارض اتفاق أسلو والتطبيع واستمر لوحده في المقاومة نيابة عن الضمير العربي والقضية الفلسطينية فخلدته الذاكرة الموسيقية العربية, بل كل العرب والعروبة, فهل من شاعر بعد درويش يحمل القضية وهمها, أم أن الواقع اليوم لم يعد "يسجل أننا عرب"؟. ونقرأ في تحديه للسجون والزنازين والسجانين"وضعوا على فمه السلاسل..ربطوا يديه بصخرة الموتى، و قالوا:أنت قاتل..أخذوا طعامه والملابس والبيارق ورموه في زنزانة الموتى، وقالوا:أنت سارق..طردوه من كل المرافيء..أخذوا حبيبته الصغيرة، ثم قالوا:أنت لاجيء..يا دامي العينين والكفين, إن الليل زائل..لا غرفة التوقيف باقية, ولا زرد السلاسل..نيرون مات، ولم تمت روما بعينيها تقاتل..وحبوب سنبلة تجف, ستملأ الوادي سنابل..!. يقول شكسبير"ان الحياة التي تستحق أن تعاش, هي تلك التي نعيشها من أجل الاخرين"..والحياة يا محمود لا توهب لتعرف أو تعرض للنقاش، بل لتعاش..وتعاش بكاملها، وتلتهم كقطعة حلوى إلهية، أو شفتين ناضجتي الكرز, وقد عشتها كما شئت أنت، لا كما هي شاءت, أحببتها فأحبتك, وشاكست ما يجعلها أحد أسماء الموت، في عصر القتل المعولم الذي يمنح القتلى قسطاً من الحياة لا لشيء..الا لينجبوا قتلى. لقد عشت من أجل الأرض, أرض فلسطين الطاهرة ورحلت عاشقا لها ومدافعا عنها, فلا عجب أن نفرأ لك عن الأرض وفي يومها"أنا الأرض, يا أيّها الذاهبون إلى حبة القمح في مهدها, أحرثوا جسدي..أيّها الذاهبون إلى جبل النار, مرّوا على جسدي..أيّها الذاهبون إلى صخحرة القدس, مرّوا على جسدي..أيّها العابرون على جسدي, لن تمرّوا..أنا الأرض في جسد, لن تمرّوا..أنا الأرض في صحوها, لن تمرّوا..أنا الأرض, يا أيّها العابرون على الأرض في صحوها, لن تمرّوا, لن تمرّوا, لن تمرّوا. في"طللية البروة"وهي من قصائد محمود درويش الأخيرة، يقف الشاعر على أطلال قريته..في عام النكبة كان محمود في السادسة من عمره, لجأ مع والديه إلى جنوب لبنان ولمدة وجيزة، إذ قرر الوالد العودة إلى فلسطين, فعاد الجميع إلى"البروة" ليجدوا ان الإقامة فيها مستحيلة فلجأوا الى"الجديدة"واقاموا فيها, ومع الوقت تحولت البروة إلى قفر يخلو من الحياة.."يا صاحبيّ قفا.. يقول محمود في قصيدة البروة، تماما كما قال امرؤ القيس من قبل, يقف على أطلال ما كان يُسمّى بالبروة، ويصف ما يشاهده ويروي ذكريات طفولته فيها:"هنا وقعت سماءٌ ما على حجرٍ وأدمته لتبزغ في الربيع شقائقُ النعمان..هناك كسر الغزال زجاج نافذتي لأتبعه الى الوادي..هنا حملت فراشات الصباح الساحرات طريق مدرستي..هنا هيّأتُ للطيران نحو كواكبي فرساً".
انه يتحدث حديثا رومانسياً عذبا عن ذكريات أيامه في الطفولة، بل عن حكايته الأولى:"حليبي ساخن في ثدي أمّي، والسرير تهزّه عصفورتان صغيرتان، ووالدي يبني غدي بيديه".. وعندما يقول له سائح افتراضي يرافقه في البروة، وقد شاهده منفعلا: انتظر اليمامة ريثما تُنهي الهديل، يجيبه الشاعر:"تعرفني وأعرفها"، أي انه عرفها عندما كان في البروة, فإذا سأله هذا السائح عما اذا كان يرى خلف الصنوبرة مصنع الألبان الذي أقامه اليهود، يجيب الشاعر:"كلاّ, لا أرى إلا الغزالة في الشباك".. يقول: والطرق الحديثة هل تراها فوق انقاض البيوت؟ أقول: كلاّ, لا أراها, لا أرى الا الحديقة تحتها، وأرى خيوط العنكبوت"..انه يصر على رؤيته السابقة للبروة، ويرفض مصنع الألبان، الطرق الحديثة، إذ لا يرى في ذاكرته وأعماق نفسه سوى الحديقة التي بُنيت الطرق فوقها، كما يرى خيوط العنكبوت التي كانت من أشياء الحديقة.
لم يشاهد محمود درويش وهو يقف على البروة سوى شبحها، وأشباح ما كان ومن كان فيها، انه أسير ماضيه فيها، وأسير ذكرياته..يرفض مصنع ألبان اليهود ويرفض طرقهم الحديثة ويتشبت بما كان، ولا يريد ان يتعزى لأن بروته قد بادت إلى الأبد, فحصانه لا يزال يحرسها.
على أن كل ذلك لا يفوت محمود درويش، فإذا كان قد انهى طللية البروة، بوقفة تراجيدية تعيد الحياة الى الشعر الملحمي"أقول أرى الغياب بكامل الأدوات..ألمسه وأسمعه، ويرفعني إلى الأعلى..أرى أقصى السماوات القصية..كلما متُّ انتبهتُ، وُلدت ثانيةً وعدتُ من الغياب إلى الغياب"..فإنه يعود إلى أطلال القضية كلها عندما يتحدث عن جرحه وجرح فلسطين ولا يجد قاضياً حيادياً يفصل فيها ويجري تنفيذ الحكم. يرد ذلك في"طللية" أخرى في ديوانه الأخير"لا أريد لهذي القصيدة ان تنتهي"..عنوان هذه الطللية:"على محطة قطار سقط عن الخريطة" يتحدث فيها عن ضياع فلسطين، ويرفض ان يصدق ما حصل، ولا يقتنع الا بما يقوله له حدسه.."كلّ ما في الأمر أني لا أصدّق غير حدسي..للبراهين الحوار المستحيل, لقصة التكوين تأويل الفلاسفة الطويل.. لفكرتي عن عالمي خلل يسبّبه الرحيلُ..لجرحي الأبدي محكمة بلا قاضٍ حيادي..يقول لي القضاة المنهكون من الحقيقة: كل ما في الأمر ان حوادث الطرقات أمر شائع..سقط القطار عن الخريطة، واحترقت بجمرة الماضي..وهذا لم يكن غزواً..ولكني أقول: وكل ما في الأمر أني لا أصدّق غير حدسي..لم أزل حيّاً".
تفتقد قضية فلسطين، كما يقول محمود درويش، المحكمة الحيادية والقاضي المحايد, ولأن الأمر كذلك، فإن الافك أو الباطل ينجح في تصويرها وفق هواه، لا وفق مبادئ الحق والعدالة، ولكن هل يستطيع الباطل ان يصول ويجول وأن ينتصر إلى ما لا نهاية؟. وأنهي بما قاله الأستاذ أحمد درويش الشقيق الأكبرللراحل:"شعرت في المرة الأخيرة التي زارنا فيها في قرية "الجديدة" أنها الليلة الأخيرة, التقطنا صوراً كثيرة على غير العادة, وأحسست أن سفره إلى أميركا سيكون بمثابة رحلته الأخيرة..شهادتي لا تختلف عن شهادات الآخرين فليس لي بمحمود أكثر من الآخرين"..فهل بعد هذه الشهادة من شهادة؟..فعلا, لقد كنت يا محمود نصف العرب بل أكثر. محمود, كم سنفتقدك حيا في كل مكان, وكم ستبقى حيا بيننا أبدا تغني.."على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
اتق الله يا رجل في نفسك وفي أمتك فإذاكان محمود درويش نصف العرب او أكثر فماذا بقي لك أنت من النصف الثاني0
لا أتصور بقيا لك شيء حتى لتكتب هاهنا 0