حقوق شهر رمضان على المجتمع بفكر الدكتور البوطي
لقد قدم للإنسانية ولعلوم الشريعية الإسلامية الكثير من أبحاثه وخطبه ومحاضراته والتي عبر عن نبعه الذي لاينضب من العلوم .. الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي العلامة الشهير في سورية تحدث عن حقوق شهر رمضان المبارك فكان لابد لنا من أن نفرز زاوية خاصة لهذه الخطبة
والتي تحرضنا على إعطاء هذا الشهر حقه فمن ما جاء في خطبته ..
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
حقيقة لَفَتُّ إليها الأنظار بالأمس, وأرى أن من الخير أن ألفتَ إليها أنظاركم أنتم أيضاً اليوم، ولعلي سأعيد بيان هذه الحقيقة وسألفت الأنظار إليها في كل مناسبة خلال شهر رمضان المبارك هذا. شهر رمضان الذي وفد إلينا من جديد هو ضيف كما تعلمون, وفد إلينا من عند رب العالمين سبحانه وتعالى, وإنه لمن المعلوم أن من شأن أولي المروءات وأصحاب الشهامة أن يكرموا ضيوفهم الإكرام اللائق بشهامتهم، الإكرام اللائق بمشاعرهم الإنسانية وبمروءاتهم, فكيف عندما يكون هذا الضيف وافداً إلينا من لدن رب العالمين سبحانه وتعالى.
أنا لا أريد أن أحدثكم في هذه المناسبة عن الحقوق التي أناطها الله عز وجل في أعناق الأفراد أمام مَقْدَمِ هذا الضيف، هذا الشهر المبارك الذي خلَّدَ القرآن الكريم اسمه كما لم يذكر اسم أي شهر آخر من أشهر العام، لن أتحدث عن حقوق هذا الشهر في أعناق الأفراد، الصيام معروف، واجب أناطه الله في عنق كل فرد منا، قيامه الذي ندبه إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيام ليله معروف، الإقبال فيه إلى الأذكار وإلى الإكثار من تلاوة القرآن أيضاً معروف, والابتعاد فيه عن المحرمات كل ذلك أمر معروف, ولكني أريد أن أحدثكم عن حقوق هذا الشهر على المجتمع، وإنما أعني بالمجتمع الشخصية الاعتبارية كما يُعَبِّرُ القانونيون، أعني بالشخصية الاعتبارية للمجتمع أسواقه، شوارعه، ميادينه، حوانيته، دوائره الرسمية، أبهاء الفنادق التي فيه، هذا ما أعنيه بكلمة المجتمع، والمجتمع بهذا المعنى الذي أقوله لكم إنما هو شخصية اعتبارية تختلف عن الأفراد الذين خاطبهم البيان الإلهي بواجبات هذا الشهر, كما أن على الأفراد أن يصوموا شهر رمضان, فعلى المجتمع هو أيضاً أن يصوم هذا الشهر، وصيام المجتمع لرمضان يختلف اختلافاً جذرياً عن صيام الأفراد من أمثالنا لهذا الشهر.
معنى صيام المجتمع لشهر رمضان المبارك أن تدخل إلى أسواقه فلا تجد فيه ما يتنافى مع قدسية هذا الشهر، مهما نظرت يميناً أو شمالاً لن تجد ما يتناقض مع قدسية هذا الشهر، صيام المجتمع لشهر رمضان يعني أن تنظر إلى المطاعم والحوانيت المفتحة عن يمينك وشمالك فلا تجد فيها ما يتحدى شهر الصوم، لا تجد فيها ما يتحدى شعار هذا الشهر، ما يتحدى قدسية هذا الشهر، معنى صيام المجتمع لشهر الصوم أن تدخل إلى دوائره المختلفة, فلا تجد أطباق الشاي وفناجين القهوة تدخل ملأى وتخرج فارغة، معنى صيام المجتمع لشهر رمضان المبارك أن تنظر إلى أبهاء الفنادق فلا تجد فيها من اللهو ما يتناقض مع قدسية هذا الشهر، لا تجد فيها من الصخب والانحطاط إلى أسوأ معاني ما يسمونه الفن ما يتناقض مع قدسية هذا الشهر المبارك.
وأنا أريد أن أُذَكِّرَ نفسي وأذكركم وأذكر مجتمعاتنا أن الله عز وجل كما أمر الأفراد بصيام هذا الشهر، ومعنى صيام الأفراد له معروف، كذلك أمر المجتمع من حيث هو شخصية اعتبارية أن يتمثل هو أيضاً فيه شهر رمضان، أن يكون هو أيضاً من الصائمين في هذا الشهر المبارك، أما أن أسير في المجتمع، أسير في شوارعه، أسواقه، ساحاته، ميادينه فأنظر وإذا بي أجد بين كل آنٍ وآخر من يشرع دخينته إلى فيه في صَلَفٍ وفي استكبار وإباء, ناسياً أنه يتقلب في أقدس شهر من شهور العام, فهذا يعني تمزيق قدسية هذا الشهر, وهذا يعني تمزيق شعيرة هذا الشهر المبارك وربنا يقول:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:22/32]
نعم, إذا دخلت إلى دائرة من الدوائر, وظننت أنك ودعت رمضان خارج هذه الدائرة, أما في داخلها فأنت في شهر آخر من أشهر العام, فاعلم أن المجتمع إذاً لم يصم الصوم الذي كلفه الله عز وجل به.
وهنا أحب أيها الإخوة أن أضعكم أمام حقيقتين كي لا يقع الالتباس بينهما في ذهن أيٍّ منا, فرق كبير بين أن يعصي العبدُ ربَّه بينه وبين مولاه، يفطر ولا يصوم الشهر، يعرض عن الصلاة التي أمره الله عز وجل بها لا يصليها, لكنه يفعل ذلك بينه وبين مولاه، هذه المعصية أمْرُهَا إلى الله, والمجتمع لا يتدخل فيها إلا بطريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وبشرط أن يكون ذلك مضمخاً أيضاً باللطف وبالحكمة والموعظة الحسنة, وليس لأحدنا أن يجبر عاصياً الإقلاعَ عن معصيته, لكن علينا أن ننصح, وعلينا أن نُذَكِّرَ بدافع من الغيرة والشفقة والحب، هذا عن المعصية التي يرتكبها الإنسان بينه وبين مولاه وخالقه، أما أن يجاهر الإنسان بالمعصية، يخرج في بياض أيام رمضان, والناس صائمون, وقدسية هذا الشهر تتألق, فيأبى إلا أن يعلن معصيته هذه, ويأبى إلا أن يرفع دخينته -كما قلت لكم- إلى فيه مستكبراً مبرراً معرضاً عن قدسية هذا الشهر، معرضاً عن الأذى الذي يواجه به مشاعر الصائمين، الإجهار بالمعصية معصية مستقلة, ولربما لا يغفرها الله، أما المعصية التي يجترها الإنسان بينه وبين مولاه وخالقه, فما أوسع باب المغفرة, ولا نملك أمامها إلا ما قد حدثتكم, ولكن عندما نجد أن هذا الضيف العزيز قد وفد إلينا من لدن مولانا رب العالمين سبحانه وتعالى, وقد ذَكَّرَنَا ربُّنا في سورة البقرة بحقوق هذا الشهر في أعناقنا، ذَكَّرَنَا بقدسية هذا الشهر التي ينبغي أن يصطبغ بها مجتمعنا، عندما نجد من يأبى أن يفطر هذا اليوم بينه وبين نفسه, بل يُصِر على أن يجاهر بإفطاره هذا لكي يشفي غليله بتمزيق قدسية الشهر, ولكي يشفي غليله بالإساءة إلى مشاعر الصائمين, فهذا صاحب جنحة يُعَاقَبُ عليها, لأنه ارتكب مما ينبغي أن يُعَاقَبَ عليه أمرين اثنين؛ تمزيق قدسية الشهر, والإساءة إلى مشاعر الصائمين, فهو يتحداهم, وهو يبرز لهم نوعاً من المحاربة لمبدئهم، نوعاً من الحرابة لالتزامهم بأوامر الله, وهو يعلن بذلك عن استخفافه لدين الله عز وجل وشرعه, وهو لون من ألوان الاستكبار الذي يحذر بيان الله عز وجل منه.
هذا ما ينبغي أن أُذَكِّرَ نفسي وأُذَكِّرَكُم به، ينبغي أن نكون حراساً على مجتمعاتنا لكي تكون مجتمعاتنا هي الأخرى صائمة كما يصوم الأفراد، صوم الأفراد معلوم وصوم المجتمع حدثتكم عنه.
وإني لأذْكُرُ عهداً مرَّ بهذه البلدة المباركة كان الذي يُتَلَبَّسُ بالمجاهرة بالإفطار في الأسواق والشوارع هكذا علناً كان يُسْجَنُ إلى آخر هذا الشهر, لأنه تلَبَّسَ بأمرين اثنين ينبغي أن يُعَاقَبَ عليهما؛ أولاً تمزيق قدسية هذا الشهر, ثانياً الإساءة إلى مشاعر الصائمين, وكأن رب العالمين يقول له: يا هذا كان بوسعك أن تدخل دارك فتأكل ما طاب لك من الطعام، كان بوسعك أن تمارس إفطارك بينك وبين مولاك, ولعلك تجد رباً كريماً غفوراً يغفر لك, أما أن تضيف إلى هذا الذي فعلته الاستكبار على الله بالمعصية، الاستكبار على المجتمع الصائم المصطبغ بقدسية هذا الشهر, فهذا أمر آخر, والعقاب عليه عند الله عز وجل وبيل, وصدق الله القائل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}[الأعراف:7/146] هذا كلام الله، والاستكبار إنما يكون بأن يعصي العبد ربه مع الصلف والتبرير والاستخفاف، هذا معنى الاستكبار الذي يحدث عنه بيان الله.
عباد الله, لقد وفد هذا الشهر المبارك مرة أخرى, ولا ندري هل نعيش عودته ثانية أم لا، لعلي أنا ممن لن يعيش عودته ثانية, إذاً فلننتهز الفرصة، إن كنا تائهين تعالوا ننهي أيام تيهنا، تعالوا نصطلح مع ربنا عز وجل، إن كنا شاردين ملتبسين بالعصيان تعالوا نطهر أنفسنا من دنس هذا العصيان، مغتسل التوبة أمامنا موجود, وباب الرجوع إلى الله مفتوح, ولاسيما هذا الشهر المبارك الذي جعله الله عز وجل مثابة رجوعٍ إلى الله واصطلاح مع الله سبحانه وتعالى. غداً إذا طرق بابنا ملكُ الموت وآذنَنَا بالرحيل نكون قد أخذنا معنا إلى الله عز وجل بطاقة التوبة، بطاقة الإنابة إلى الله، أقول هذا لنفسي ولكل فردٍ منكم على كل المستويات وعلى كل الدرجات، نحن راحلون، نحن ذاهبون من هذه الحياة الدنيا، نحن نعيش في مستودع وغداً نتجه إلى المستقر{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}[الأنعام:6/98]، يا عباد الله آتوا المستقر حقه كما أعطيتم المستودع الدنيوي أيضاً حقه, أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.